شعار قسم مدونات

ما بين الاعتراف على الذات وفضحها

blogs - self

أكادُ أجزمُ بأن أغلبية من شرعوا في التدوين هُنا، احتاروا بأي موضوع يستهلون مسيرتهم، حتى يضمنوا لتدويناتهم مكانًا آمنًا وثابتًا في قلوب الآخرين قبلَ عقولهم، مكانا يضمن لهم -بدورِه- تعطش كل من يمر على نصوصهم، للآتي منها.

ولا شكَ أنَّ كثيرين استغلوا الأحداث التي يشهدها العالم اقتصاديًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، ليجذبوا القرَّاء، وليطبعوا بذاكرتِهم ذهولاً بالأرضيَّة الثقافيَّة المتينة التي يمتلكون، ولينوِّهوا بأنهم مواكبون لكل التطورات التي تطرأ على الكرة الأرضية، ولا حرج في أن تكون إحدى غاياتهم أيضًا، نيل تصفيق الآخرين، ما داموا يستحقون التصفيق فعلاً. ولكنني، رغمَ حيرتي التي طالت كثيرًا قبل أن أرسوَ على الموضوع الذي سأستهلُ به طريقي إلى قلب كل من سيمرُ من هنا، ما زلتُ أؤمن، وأصر على إيماني، بأن أصدقَ النصوص وأعمقها، تلكَ التي تنبع من فؤاد الكاتب، وتجربته الحياتية، ومعاناته اليومية.

ليس يسيرًا أبدًا على امرئٍ كابرَ أمام الحياة طويلاً أن يرسم نفسه في إطار الضحية مُثيرًا شفقة كل من يمر على اللوحة التي شكلها

ولعلِّي لا أُبالغُ أبدًا، إن قلتُ إنني لا أخجل من فضح نفسي على الورق في سبيل كتابةِ شيء يستحقُ القراءة فعلاً، ولا أستحي أبدًا من القول إنني أنا هي فعلاً تلكَ التي تقف -بكل ثقةٍ- خلف ضمير المُتكلم "أنا" في جميع النصوص التي أشفق فيها قُرَّائي على الشخصيَّة.

لقد كنتُ أنا التي أفلتَ جميعُ من حولها يدها في الوقت الذي كانت فيه، في أمسِّ الحاجة لقلبٍ واحدٍ حقيقي يحبها بصدقٍ، وأنا التي طالما رثت ذكرى حبيبٍ مضى قبل أن يدخلَ حياتها فعليًا، وقبل أن يلعب دور الحبيب أساسًا، وأنني هي أيضًا، تلكَ التي تجاهلها البعض، وقلل من شأنِها البعض الآخر، وما زالت -رغم كل ذلك- تكتب عن كل الأشياء التي خذلتها، رغم سذاجة تعلِّقها المفرط، وعن الأشخاص الذين ركلوها، رغم سخائها العاطفي.

لا يُخجلني أن أعترفَ بأنَّ جُلَّ ما كنتُ أكتبه، هو واقعٌ عشته حرفًا حرفًا، وحتى لا تضيع هدرًا، تلك الأحاسيس التي أبت أن يُفارق ألمُها صدري بسهولة، كنت أُشكِّل بمآسيَّ الصغيرةِ نصوصًا أضعها على مرأى الجميع، أولئك الذين قد يرونها أكبر هدية، لأنهم طالما عجزوا – رغم محاولاتهم – على تحويل أحاسيسهم، حتى الصغيرة منها، إلى جُملةٍ واحدة تعكس ألمًا منزويًا في أحد جيوب الفؤاد، وربما أيضًا، لأنهم يخجلون من فعلِ ذلكَ، خشية أن يكونوا محل شفقةٍ وتعاطف ممن يقرأ هزائمهم.

ولإيماني الشديد برفعة مكانة أدب الاعتراف الذي يشكك بقوته البعض، ويُحقِّرُهُ البعضُ الآخر معتبرًا إياه ثرثرةً لا تلزم سوى كاتبها، ما زلتُ أؤمن بأنَّه ليس يسيرًا أبدًا على امرئٍ كابرَ أمام الحياة طويلاً، أن يرسمَ نفسَه في إطار الضحيَّة مُثيرًا شفقة كل من يمر على اللوحة التي شكلها.

الاعتراف هو أعظم وسيلة للتصالح مع الذات وإن كان على سبيل فضحِها، فإنه خير مرآةٍ يرانا فيها الآخرون عُراة بلا زيف الكِبر أو قناع القوة الكاذب.

لكن ما يغفل عنه الكثير من الكُتَّاب، هو أن النصوص التي نُقر فيها بضعفنا ليست وسيلة لاستجداء تعاطف الآخرين، وإنما هي إرساء لثقافة الاعتراف بحالات الهزائم العاطفية والشعورية التي نعيشها يوميًا، ثقافة أن تُقرَّ بضعفِك لا ليتخذه الآخرُ حجةً عليكَ، بل لكي تقول إنكَ قوي بما يكفي لتعترفَ بحالات الضعف التي مررتَ بها، والتجارب التي أخفقتَ فيها، والعواطف التي جرَّدتك من كلِّ زيف وقناعٍ، لتعلمكَ أن الإنسانية تحتِّم عليكَ أن تخفقَ لتنجح، وتُهزمَ لتَهزِمَ، وتقعَ لتقفَ، وتموتَ لتحيا، وتخطئ لتُصيبَ، وتتألمَ لتكتبَ، وتعيشَ لتعترفَ بما عشتَ من خيبات، ستتجاوزها لا محالة.

يوم تقتنع بأن إقرارك بالحسرةِ التي خلَّفَتْها تلك الخيبات، ليس ضعفًا، وإنما فرصة لإقناع الآخرين وتعليمهم أن الاعتراف هو أعظم وسيلةٍ للتصالح مع الذات وإن كان على سبيل فضحِها، فإنه خير مرآةٍ يرانا فيها الآخرون عُراةً بلا زيف الكِبر أو قناع القوة الكاذب، مرآة تجعل الآخرين يعرفون كيف يكونون في قمة إنسانيتهم، ليتعلَّم كلٌ منهم كيف يعترف بأنه "إنسان"، لا يزال يتقبَّل نفسه ويحبها، رغم كل الضعف الذي عاشته، وليوقنَ أن كل الهزائم التي مرَّ بها، ما هي إلا فرص سخَّرها له القدر ليصيرَ بها أقوى بما يكفي، حتى يرويَها للآخرين بكل فخرٍ وثقةٍ.

لأنَّ الألم لم يُخلق لنخجل به بتعلة أنه يجعلنا نبدو في قمة الهشاشة، وإنما لنتعلمَ أن لكلِّ جوادٍ كبوة، وأن كل الحفر التي سقطنا فيها ولم نمت، كانت خير مرشدٍ لنا، لندلَّ طريقَنا في المرَّات القادمة، ولنقول للآخر: "لا تخشَ شماتة الآخرين حين يرونك وأنت تسقط، أو ضحكاتهم عندما يشهدون مُعاناتك وأنت تحاول الوقوف مجددًا؛ فالحكيم سيتخذ تجربتكَ عبرةً، ووحده من لا وِجهةَ له، سيضحك عليكَ طويلاً، حتى يقع بنفس الحفرة التي وقعت فيها أنتَ ماضيًا، وسيفضِّل، وقتَها، أن يظلَّ هُناك ويعيشَ مُعاناته سِرًا عن أن يُحاول الخروج، كي لا يرى الناسُ الهزيمةَ على وجهه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.