شعار قسم مدونات

عن الهائمين على وجوههم

blog-اللجوء

ضرب الشيخ لنا مثالاً عن طالبٍ ابتُعث في بعثةٍ دراسية إلى فرنسا، قال إنه من السذاجة ألا يكون على درايةٍ كافية بما سيفعله هناك، وعما سيبحث عنه فورهبوط طائرته، ألا يحمل في ذهنه تصوراً لمعيشته هناك إلا بين المعاهد والجامعات والمكتبات.

بدا المثال منطقياً حد البداهة، حتى ضحكنا حين افترض الشيخ أن الطالب المبعوث قد يبحث أول ما يبحث في البلد الأجنبي عن مواعيد الحفلات والمناسبات الصاخبة، وها نحن نضحك من أنفسنا حين نرى ما استحلنا إليه بعدها.

لم تكن الصدمة بهذا الحجم في البداية -الأيام الأولى خارج سوريا- كنا نتخيل أن الأمر لن يطول لما يزيد عن أشهر

هائمون على وجوهنا خرجنا، حتى نحن الذين خرجنا بالطائراتٍ العملاقة، بساعاتٍ قليلة وجدنا أقدامنا تقفُ على أرضٍ غريبة، ننظر في وجوه أناسٍ لا يتكلمون لغتنا أو لهجتنا بأحسن الأحوال، لا ندري إلى أين تمشي خطانا.

لا يمكننك افتراض أن حالة الصدمة -صدمة أن تُدعى مغترباً في ليلةٍ وضحاها- ستنجلي بعد يومٍ أو يومين، كان الأمر يستحق الكثير فوق ما يعرف الزمن.

"شهران ويسقط"
منذ اليوم الأول للثورة، تعاملنا مع الأمر كمرحلةٍ سريعة العبور، حتى أن هذا انطلى على فئةٍ واسعة من النخب وليس العامة فحسب، تصرفنا جميعنا بتهورٍ يليق بثورةٍ ستنتهي بعد أشهرٍ في أبعد تقدير، كانت مصر قد أنجزتها في 18 يوماً، تخيلنا أن الأمر مشابه، وعليه بنينا الكثير مما تسبب بكثير من الخلل.

لم تكن الصدمة بهذا الحجم في البداية -الأيام الأولى خارج سوريا- كنا نتخيل أن الأمر لن يطول لما يزيد عن أشهر، "لا يهم هذا"، "يمكننا الصبر على ذلك لحين عودتنا"، "حالةٌ مؤقتة وستمضي"، تضخمت الصدمة مع تتابع الأيام والأشهر، مع الذكرى الأولى لحجز طائرة الخروج، ثم الذكرى الثانية، ثم تجديد جوازالسفر، متى مضى عليه كل هذا ليستدعي التجديد؟!!

سؤال "إلى أين؟!" مرهقٌ لمستقرٌ في منزله وعلى رأس عمله، حوله العائلة والمعارف، فكيف بمن لا يجد من هذا إلا السؤال؟!

"وهلأ لوين؟!"
استدعت الصدمة وقفةً عاجلةً ولابد، قد تبدو "عاجلة" كلمة مثيرة بعد حديثٍ عن تأخر سنةٍ واثنتين -اختلفت حسب الحالات- للوصول لصدمة، ولكن حالة الغربة -غربة الهارب- ومع عدم الخطيط والإعداد تضع المرء في دوامةٍ لا مخرج منها ولا سكون فيها، بالكاد نلتقط أنفاسنا لنهدأ وحينها نتفاعل مع هناك الذي يغلي، والذي لا نعي إلى اللحظة كيف تركناه، وتجدرالإشارة أن الوقفة العاجلة هذه، ومع أنها عاجلة، فقد لا يتسع لها الجدول إلا بمغامرةٍ تستدعي ترك النوم أو العمل، أو إهمال الدراسة.

سؤال "إلى أين؟!" مرهقٌ لمستقر في منزله وعلى رأس عمله حوله العائلة والمعارف، فكيف بمن لا يجد من هذا إلا السؤال؟! بمن هو معلقٌ بين مستقبلٍ شخصي يتطلب تفرغاً كاملاً وبين مستقبلٍ جماعي لوطنٍ يغلي هناك، معلقٌ بين العائلة وظلها، والفرص الأفضل وحيداً، وبين وبين وبين، زد عليه التضييق العالمي، لمن هو لا يستطيع الحصول على فيزا سفر إلا إلى دولٍ تعدُ على الأصابع، إذن هي الهجرة غير الشرعية؟! وماذا إن مات على الطريق؟! ماذا إن وصل؟! كيف سيتعامل معه الذين شاركوا تحت الطاولة وفوق الطاولة بتدمير بلده الذي ترك؟! ماذا سيفعل هناك؟! وأسئلةٌ لا تحصى، أسئلةٌ بغير أجوبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.