شعار قسم مدونات

بائع الموت

(FILE) A file photo dated 31 October 2013 showing an employee standing behind 'West' cigarettes in the Reemtsma cigarette factory, a wholly owned subsidiary of the Imperial Tobacco Group PLC., in Langenhagen, Germany. About 700 employees in the factory produce more than 30 billion cigarettes annually, which are exported to over 100 countries. Imperial Tobacco Group PLC. released their 2016 half year results for the six months ended in March 2016 on 04 May 2016, saying

"مش مهم الثمن، عاوز علبة سجاير من غير صورة".. هكذا يطلب أحد المدخنين من عبد الله وهو صاحب كشك لبيع التبغ والمرطبات يطل على مستشفى الأورام قرب ميدان الخليج بقلب العاصمة المصرية القاهرة.
 

"حسب لائحة تنفيذية لقانون مكافحة التدخين بدأ تطبيقها في مصر أصبح لزاماً على كل شركة منتجة للتبغ في مصر وضع صور على علب التبغ يظهر فيها رجل يقاوم الاختناق راقداً بغرفة عناية مركزة وعلى فمه وأنفه جهاز للتنفس الصناعي".
 

يقول العم عبد الله بعد أن باع علبتي سجاير ماركة كليوباترا الشعبية بأكثر من ثمنها الحقيقي بنحو 20% "كأن ضرر السجاير اللي جوه العلبة من غير صورة أقل من ضرر السجاير اللي في علبة بصورة".
 

يحزنني كثيرا ما يوهم به بعض الشباب أنفسهم من أن لديهم مشاكل كبرى تبرر استعباد السيجار لنفسياتهم .

يشير البائع عبد الله إلى الباب الرئيسي لمستشفى الأمراض السرطانية ويستطرد في الحديث: إن غالبية من يدخلونه هم ضحايا التدخين.
 

أقارب المرضى يأتون لشراء العصائر وحين أسألهم يقولون لي إن السجائر وراء إصابة قريبهم بهذا الداء اللعين، ومع ذلك تجدهم يشعلون السيجارة قبل أن يدخلوا لرؤيته على سرير الموت.
 

الطريف أن العم عبد الله البالغ من العمر 44 عاماً كان يتحدث وهو يدخن سيجارة بينما عيناه تنتقلان بين علب السجاير المصفوفة أمامه بما عليها من صور وكلمات تحذيرية واضحة وبين مريض جديد يدلف به أهله لمستشفى الأورام، كأنه يفكر في أنه في يوم من الأيام سيأتي عليه الدور ليصبح ضمن حوالي ثلاثة ملايين مصري يموتون سنوياً بسبب التدخين.
 

يحزنني كثيرا ما يوهم به بعض الشباب أنفسهم من أن لديهم مشاكل كبرى تبرر استعباد السيجار لنفسياتهم، وما إن تسأل أحدهم عن الموقف الذي حدث له فابتدأ معه التدخين إلا وانفجر شاكياً "حبيبتي سابتني أصلها ماكانتش تستاهل الحب اللي كنت بحبه لها".

 

 وآخر يبرر بأنه فاشل لم يستطيع النجاح في دراسته الجامعية لمدة سنتين وحتى الآن. وثالث يرى في تحمله مسؤولية عائلته في سن صغير بعد وفاة أبيه سبباً كافياً لتوقف ديمومة حياته.
 

أسبابٌ كثيرا ما نسمعها وأعذار لا تنتهي يحاولون بها أن يجعلونا نتفهم وجهة نظرهم، وكأن لا أحد تعرض لموقف غيرهم.
 

هؤلاء الشباب الذين هربوا إلى التدخين عجزوا عن مواجهة الموقف بسبب أن الكثير منهم برمجوا من الصغر على الاعتقاد السلبي الذي يكبر معهم حتى أصبحوا سجناء لما يسمى " البرمجة السلبية "، والتي يكتسبونها من الأسرة أو المدرسة أو الأصدقاء أو منهم جميعا.
 

لكن الأدهى من وصول بعض الشباب والفتيات إلى هذه المرحلة هو ما يسبقها من أسباب قد يكون للوالدين تأثير مباشر فيها إذا كانا ممن يدخنون فينشأ الأبناء في بيئة اعتاد فيها على شم تلك الرائحة السيئة!
 

هناك سبب غير مباشر كأن يدفع الوالدان أبناءهما إلى الانزلاق والهروب لتجرّع الموت بالتدخين والمخدرات إذا كانت الأسرة تعاني من تفكك أُسري أو لا يجد الأبناء الاحتضان اللازم في المنزل والمعاملة الطيبة فيبحثون عن بديل ويقعون في شباك أصدقاء السوء ويقدّمون لهم الانحراف على أنه تجربة لأشياء جديدة ممتعة.
 

تشير الإحصاءات إلى أن العالم العربي ينفق على التدخين 12 مليار دولار سنويا، وأن المصريين وحدهم يدخنون 85 مليار سيجارة سنويا

إذن، هذه العوامل التي نظنها سبباً رئيسياً في حمل المراهق على التدخين والمخدرات كالرغبة في المغامرة ووهم استقلال الشخصية أو المعاناة من خلل نفسي ما هي إلا عوامل ظاهرية لسبب رئيسي هو انشغال الأب والأم عن رسالتهم الجوهرية في الحياة وانكفائهما على ذاتهما.
 

إن حرمان الأبناء من عاطفة الأمومة واحتواء الأب يدفعهم لتكوين مجتمعهم الخاص ويكونون أحرص على كسب ثقة المجتمع الناشئ من الانتباه لخطورة إضرارهم بأنفسهم وتبديد ثروات الأمة.
 

تشير الإحصاءات إلى أن العالم العربي ينفق على التدخين 12 مليار دولار سنويا وأن المصريين وحدهم يدخنون 85 مليار سيجارة سنويا.
 

كل هذا رغم أنهم يصنفون على أنهم أنصاف مدمنين فكم سيجارة سيدخنون عندما يصلون إلى حالة الإدمان الكامل.
 

وهكذا نظل في دائرة مغلقة تنشأ فيها الأجيال مُجهدة صحياً مُشتتة فكرياً في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى أن يحمل الشباب لواء نهضة الأمة وحضارتها وراية مجدها إلى التقدم لما يتمتعون به من الطاقة والإرادة والجلد على تحقيق مبتغاها إذا ما ساروا على الطريق الصحيح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.