شعار قسم مدونات

الكاتب العربي أمام أصفاد الجناية وحرية الفكر

blogs - writer

لماذا عندما يريد الانسان العربي منْ أي فئة أدبية كانَ سواء كاتب روائي مدوّن أو حتى معلّق في أحد مواقع التواصل إذا أراد تناول قضيّة مّا فإنه يجد نفسه يفكّر أوَّلا بالخطوط الحمراء و الموضوعات الممنوعة من التداول والطابوهات المحضورة و حجم الجناية المحتمل ارتكابها و يرفع مستوى الحذر الشديد في انتقائه للكلمات وربّما يلجأ إلى عِلْم الشيفرات والكتابة ما بين السطور الذي فيه احتمالٌ كبير ألاّ يصل المعنى للقارئ وتبقى فكرته معلّقة أو تتأرحج بين الممكن والمستحيل؟

الكاتبُ العربي يتكبّد العناء والمشقّة ليس في نَظْمِ الكلمات ولا قصورا في اللغة، ولكن هي الخطُورة فيما هو مُقدمٌ عليه، وماذا سيكون مصيره بعد نشرالنّص؟ كل هذه الهواجس تحصل حتى قبل أن يفكّر فيما سيطرح من قضايا!
 

الدين والسياسة هما أقدس المحظورات، فقد يُكلّفك تجاوزَك هذا حرّيتك وقد تُصنّفُ كتاباتُكَ ضمن إطار الجريمة الإلكترونية أو الأدبية أو الفكرية وقد تُتهم بالكفر أو الزندقة

لماذا هناك تعليبٌ وتحجيمٌ لعقل الإنسان العربي؟ وكيف لثورة الفكر السّويّ أن تتحقق وتنقشع سُحب التضليل والتشتيت الفكري إن نحنُ كبَتْنا تساؤلاتِنا ووجهاتِ نظرنا وحجَبْنا مشاعرنا؟

الدينُ والسياسة هما أقدسُ المحظورات التي لا يجوز الخوض فيها بدون حذَّر أو تخصص أو حياد، فقد يُكلّفك تجاوزَك هذا حرّيتك وقد تُصنّفُ كتاباتُكَ ضمن إطار الجريمة الإلكترونية أو الأدبية أو الأخلاقية أو حتى الجريمة الفكرية وقد تُتُّهم بالكفر أو الزندقة.

فمثلا مسألة الإيمان الثابت بمسألة ما، لا تتحقق إذا أخفى الفردُ وساوسه وهواجسه وتساؤلاته إن لم يواجهها بالحجة والبرهان، وسيبقى إيمانه ضعيفا أو مهزوزا يُصبح المرءُ على إثرِه سهلَ الانسياق كأنْ يصبحَ متطرّفا أو تاركا لدينه أو ملحدا. فَنجِد مثلا أن الفلسفة أو الفكر الاسلامي تمّ اعتبارهما خطرا على المجتمعات العربية والإسلامية وتمّ حذفها من المقررات الدراسية في بعض الدول العربية خوفا من أن تؤثر سلبا على الشباب(حسب معتقدات من حظرها) وهذا الاتهام بحدّ ذاته يشوّه الصورة القويّة للاسلام كديانة قادرةٍ على الردّ على كلّ الشبهات والتعامل مع الأيديولوجيات المختلفة باعتبار أن الاختلاف هو صفة ملازمة للانسان.

هذا القرارُ بالحظر في نظري يتهم الإسلام بالضعف ويعتبرالفلسفة "لغطٌ" تُضلّ المسلم وتجعله يثور على المسلّمات! علما أن الانترنت اليوم يفسح المجال أمام الجميع بأن يطّلع على كل المواد والفلسفات الموجودة و قد يَهيمُ فيها المتصفح و يتبنى فكرا مّا من باب المغامرة والتجربة أوعلى سبيل التغييرمثلا،فإنْ لم يدرس الفكر الفلسفي بشكل صحيح حينها يصبح خطرا على معتنقِه لأنه لايعرف أُسس الفلسفة وليس لديه الأدوات الأساسية للبحث الفلسفي الذي يعتمد على منهج الشك في البديهيات و إعادة النظر في المسلمات للوصول إلى اليقين الثابت ،كما أنّه لا يفرّق بين الفلسفة الغربية والفكر الاسلامي.

فمن باب الملاحظة والتأمل نجد أن الله سبحانه وتعالى بقَدْرِهِ الجليل في كتابه الكريم يُحاور جميع أطياف البشر من الكفّار إلى المشكّكين مرورا بالمنافقين والملحدين والطاغين و مخاطبا المؤمنين والصالحين بالعقل والمنطق والحجة والعبرة والبرهان حتى وإن كانوا مخالفين لشريعته في الأرض،مُعترضين على إرادته فيما خلق فمن كرم الله مع الانسان أنه ترك له حرّية التعبير والجدال ولم يُنزل العقاب قبل النقاش، وبما أنّ كلّ المسائل مردودٌ عليها في الاسلام لمَ كلّ هذا الخوف و التّعْليب للفكر العربي؟
 

ربما العلّة فيما جُبلنا عليه في بلداننا العربية، فنحن تربّينا على التلقين أولا قبل التعليم، وشتان بين هذا وذاك، فالتعليم يحتاج أولا من الانسان أن يُخطأ ويجادل و يفكّر ويعتبر وبعد ذلك يتحقق التعليم، أما التلقين فهو تمريرٌ للموروث دون اعتراض، فأغلبنا مسلمون بالوراثة وليس عن دراية ووعي، فالنجاح في المدارس العربية مثلا متوقّف عن مدى حفظ الطالب وليس عن فهمه للغاية المرجوّة من التعليم و يمنع الطالب من استعمال المراجع أو الحواسيب أو غيرها من الوسائل علما أنه سيستعمل هذه الوسائل في حياته اليومية، و المنطق يتطلّب أن يتماشى الانسان مع مخرجات التقدم العلمي من أجهزة ذكية توفر الوقت والجهد وتفسح للعقل مساحة الابتكار، ولهذا فإنّ الابداع الفكري أو الفني في بلداننا العربية هو تقليد في أصله، إما تقليد أعمى أو ابداع في طور الحبو.

لم نسمع عن الغرب أنّه تبنّى فكرة معاصرة ذات حقوق عربية محفوظة وأدمجها في حياته اليومية عدا علوم وأفكار العصور الذهبية للمسلمين من القرن الثامن وحتى القرن الخامس عشر، في هذه الفترة قام العلماء وتجار العالم الإسلامي بالمساهمة بشكل كبير في حقول الفن والزراعة والاقتصاد والصناعة والأدب والملاحة والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا والفلك والطب..

ويحضرني في هذا المقام نُبُل واتساع أفق العالم الجليل ابن رشد لشرحه أثار أرسطو وأفلاطون والرد عليهما في بعض النظريات، فمازالت كتاباته تدرّس في جامعة باريس منذ العصور الوسطى، وظلت المدرسة الرشديةَ-الفِكر هي حلقة الوصل في فهم العلوم والفلسفة. و خلقوا بهذا التطور الفكري ثقافةً فريدة من نوعها متداخلة سمحاء تتقبل الآخر وتحاوره بالمنطق وتردّ عليه بالبرهان ما أثّرت بدورها على المجتمعات في كل القارات وعلى إثرها ازدهرت أوروبا في عصر النهضة عندما تخلّ الأوربيون عن أغلال الكنيسة، وتجدر الإشارة إلى أن الصراع إبّان هذه الحقبة كان بين الكنيسة والعلم وليس صراعا بين الدين والعلم (وهذا ما نخاف أن يحصل في بلداننا الاعربية بأن يصبح هناك صراع بين المؤسسات التي تحمل اسم الدين و الفرد المسلم نفسه) فسقوط الكنيسة كان نتيجة خطأين فادحين:
 

أولهما: يكمن في تحريف الكتاب السماوي وخلطه بكلام البشر وتوظيفها الخرافات الوثنية و جعلتها عقائدَ إلهية واعتبرت الكفر بها كفراً بالوحي والدين الجدير بالعقاب. مما قلّص من فرص الاقتناع والقبول لدى عموم الناس.
 

صلاح الفكر من شروط تطور المجتمعات والتقدم في جميع المجالات، وَأَمَّا الحجرُ على العقول وتقنين التفكير يُعيق الحضارة والتقدم ويجعل الفرد منساقاً لا يجرؤ على التغيير

أما الخطأ الآخر: فكان فرض الوصاية المشدّدة ومحاسبة الناس لا على معتقدات قلوبهم فحسب، بل على نتائج قرائِحِهم وبنات أفكارهم وهذا التضييق والاضطهاد لكل المخالفين فجّر الثورة على الكنيسة أو ما يعرف بالثورة اللوثرية التي رفضت سياسات الكنيسة تجاه الناس وانطلقت شرارة الثورة..

هذا التعريج على التاريخ الأوروبي كان لابدّ منه حتى نفهم عقدة الأوروبيين والفوبيا والعدوانية لدى الغرب، فحالة الاٍرهاب باسم الدين عانت منه أوروبا، وكان متمثلا في انتهاكات الكنيسةفيما مضى. فصورة الارهاب الاسلامي الذي روَّج له الاعلام الأمريكي-الإسرائيلي والإعلام الأوروبي العلماني المحض اليوم، أعاد إلى الأذهان الذكريات المؤلمة، فهذه التعبئة الإعلامية انعكست على سلوكيات البعض ولهذا نرى ونسمع عن انتهاكات في حق مسلمي الغرب ونفهم جليّا لماذا هزّ البوركيني عرش المبادئ العلمانية وأصابهم الخمار بالإسلاموفوبيا.

إن صلاحَ الفكر هو من شروط تطور المجتمعات والتقدم في جميع المجالات وَأَمَّا الحجرُ على العقول وتقنين التفكير يُعيق الحضارة ولا يخدُم التقدم بل على العكس يُحدِث ردّة فعل مضادة و سلبية لدى الفرد تجعله منساقا خاضعا لايجرؤ على التغيير ويفضل العيش في الظل.

فهل كان لثورات الربيع العربي أن تنجح لو سبقتها ثورة فكرعربي -منفتح وثورة أخلاق محمّدية وثورة خطاب ديني- نجاشيّ وثورة إعلام إسلامي متسامح؟ أليس الأوْلى والأجدر أن يسموَ المواطنُ العربي فكريا ويتحرر من أصفاد "الجناية المحتملة" قبل المطالبة بالتغيير السياسي؟ فلا عيش كريما دون فكر سليم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.