شعار قسم مدونات

أردوغان وكولن: لماذا كان الصدام حتميًا؟ (1)

blogs-غولن
لا تزال الحملة العنيفة التي تشنها الحكومة التركية على تنظيم كولن جارية في مختلف مؤسسات الدولة وفي ساحات العمل الاجتماعي، وهي الحملة التي بدأت عقب فشل المحاولة الانقلابية في 15 تموز/يوليو المنصرم، والتي اعتُبر التنظيم هو المخطط الرئيسي لها عبر الموالين له في الجيش كما ذهب أغلب المحللين والسياسيين، وهي حملة تمثل ذروة الاصطدام بين التنظيم والحزب الحاكم، والذي لاحت بوادره تدريجيًا على مدار السنوات الخمس الماضية.
 

يثير ذلك الاصطدام علامات استفهام كثيرة، لا سيما وأن الطرفين المحسوبين على "الحراك الإسلامي" في تركيا خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين شكلا تحالفًا وثيقًا خلال السنوات الأولى لحزب العدالة والتنمية كان ليستحيل بدونه كسر هيمنة الحرس العلماني القديم على السلطة، لا سيما داخل الجيش، وهو ما دفع بالكثيرين أنذاك للتنبؤ بأن التحالف سيستمر بشكل أكبر أثناء تشكيل معالم النظام السياسي الجديد في تركيا.
 

حاول البعض تفسير الاصطدام بين كولن وأردوغان بكونه صراعًا على السلطة بين طرفين تخلصا من عدوهما المشترك، وتحولا للرغبة في الهيمنة المطلقة وإقصاء الطرف الآخر

لم تجري الأحداث بالطبع كما كان متوقعًا، وتزايد التوتر، وهو الأكبر بين فصيلين "إسلاميين" في تاريخ الجمهورية التركية، نتيجة الاختلاف حول التقارب مع إيران (الذي يرفضه تنظيم كولن)، والدور المحوري لرئيس الاستخبارات وذراع أردوغان اليمنى هاكان فيدان، وفتح ملفات الفساد الحكومي في كانون الأول/ديسمبر 2013، والتي اعتبرها الحزب وأنصاره تحركات مسيّسة من الدوائر الموالية لكولن في القضاء، وأخيرًا موقف الحكومة من الملفين المصري والسوري.
 

حاول البعض تفسير الاصطدام بكونه صراعًا على السلطة بين طرفين تخلصا من عدوهما المشترك، وتحولا للرغبة في الهيمنة المطلقة وإقصاء الطرف الآخر، بيد أن جذور الاصطدام بين أردوغان وكولن ربما أكثر تعقيدًا من تلك المعادلة الكلاسيكية، وهي تعود إلى الفجوة الكبيرة في تصوّر كل منهما لعلاقة الدولة بالمجتمع، وهي فجوة تجعل تحالفهما القصير في الحقيقة مجرد حالة استثنائية.
 

إشكالية علاقة المجتمع بالدولة
 

يمكن القول أن الصدام في الداخل بين الحزب والتنظيم بدأ مع اتجاه الحزب نحو تغييرات جذرية في مؤسسات الدولة وطبيعة "الوصاية" التي كانت تمارسها السلطة القضائية والجيش سابقًا على السلطة التنفيذية، وتزايد الحديث عن احتمالية التوجه نحو نظام رئاسي أكثر استقرارًا من النظام البرلماني، وأقل عُرضة للسقوط بسهولة على غرار ما جرى للائتلافات الحكومية الضعيفة سابقًا.
 

كان الافتراق حيال تلك التحولات طبيعيًا ببساطة لأن تنظيم كولن كدّس رأس ماله السياسي في بنية النظام العلماني القديم كما هو، مع فارق بسيط وهو إقصاء شبكات العلمانيين والزج بالموالين له بدلًا منها فقط ليس إلا، وبالتالي فإن دوائر القضاة القادرة على تحريك قضايا بعينها في أي توقيت للضغط على الحكومة على سبيل المثال قد أصبحت ببساطة ذراعًا للتنظيم وليس للعلمانيين كما كانت في العقود السالفة.
 

على نفس المنوال، فإن القيادات الثقيلة في الجيش التي نجح التنظيم في التخلص منها عبر قضايا ملفقة عام 2008 بتُهمة التآمر على الحكومة، والتي كانت ترغب بالفعل في إسقاط العدالة والتنمية لصالح أجندتها العلمانية، حلت محلّها قيادات أخرى موالية لتنظيم كولن تآمرت هي الأخرى على الحكومة كما رأينا منذ أسابيع، مع اختلاف بسيط وهو أن أجندتها لم تكن علمانية ولكنها كانت أجندة التنظيم.
 

لا يجد كولن أية إشكالية كبرى في بنية الدولة القديمة، وفي فكرة الوصاية العسكرية والقضائية على السلطة المنتخبة، شريطة أن يكون "اللوبي" الممارس لتلك الوصاية محسوبًا عليه لا أكثر، وليس على المتطرفين من العلمانيين ممن استخدموها في قمع الحركات الإسلامية في الماضي، وهي وصاية يراها ضرورية لحماية مكتسبات حركته الاجتماعية التي تملك المئات من المدارس والمستشفيات والمنابر الإعلامية، وهي حركة بناها على مدار ثلاثة عقود بجهد دؤوب وانضباط تنظيمي غير مسبوق ربما في تاريخ الحركات الإسلامية بالعالم الإسلامي كله.
 

لا يقول أنصار كولن بالطبع بأنهم من أنصار "وصاية الدولة على الديمقراطية"، لكنهم يعتقدون أن رأس المال الأهم لحركتهم، وهو البنيان الاجتماعي، يجب أن يحظى بأسبقية على سلطان الدولة التقليدي، وهو ما يعتقدون أنه متحقق بالفعل جزئيًا في نظام الجمهورية القديمة، والتي اتسمت بوصاية مستمرة على السلطة التنفيذية، وأن كل المطلوب هو إعادة توجيه تلك الوصاية لتصب في صالح الحركة الاجتماعية الأهم في تركيا في نظرهم وهي حركة كولن، بعد أن كانت تُمارس في السابق لصالح أقلية علمانية على حساب المجتمع كله.
 

على النقيض تقع رؤية العدالة والتنمية، والذي يرى بأن وجود بنيان اجتماعي قوي للإسلاميين ليس كافيًا أبدًا، خاصة وأنه طالما كان موجودًا على مدار العقود السالفة للحكم العسكري لكنه ظل يعاني من تسلطه عبر أجهزة الدولة، ولذا فإن خصوصية الدولة الحديثة ككيان يملك احتكار السلطة السياسية بشكل مُطلق أكثر من الدول السابقة على العصر الحديث تتطلب سيطرته كأكبر فصيل سياسي على أجهزة الدولة التنفيذية عبر آليات الديمقراطية (باعتبارها الأفضل أو الأقل سوءًا،) ومن ثم يصبح الجهاز التنفيذي للدولة نفسه حليفًا للأغلبية ومعززًا لنشاطاتها.
 

يرى كولن بأن الحل الأقل سوءًا هو استمرار الوصاية على الدولة التنفيذية عن طريق التنظيم، في حين يرد نقاده بأن تلك الوصاية ستتحول فعليًا لوصاية لصالح تنظيم كولن فقط وليس لصالح المجتمع

***
 

باختصار إذن يخرج من ذلك الخلاف الجوهري الكبير كل ما رأيناه من توتر سياسي بين تنظيم كولن وحزب العدالة والتنمية في السنوات الماضية، فالرجل العجوز القاطن في الولايات المتحدة حتى الآن يقول نظريًا بأن الحل الأقل سوءًا هو استمرار الوصاية على الدولة التنفيذية عن طريق التنظيم، في حين يرد نقاده بأن تلك الوصاية مهما بدت براقة نظريًا ستتحول فعليًا لوصاية لصالح تنظيم كولن فقط وليس لصالح المجتمع أو حتى الحركات الإسلامية كلها كما يدعي، مما يعني فعليًا عودة إلى عصر استبداد الأقلية.
 

أما أردوغان فيقول بأن الحل الأقل سوءًا هو تعزيز الدولة التنفيذية وتحويل النظام لنظام رئاسي، على أن يكون الصندوق ضامنًا لاستمرار تمثيل أجهزة الدولة للمجتمع أو شرائحه الأكبر على الأقل، وهو أمر لا يضمن نهاية استبداد الجمهورية القديمة، لكنه يضمن تقليص مساحاته بشكل ملحوظ وحبسه عن السواد الأعظم من المواطنين، وهو أمر يرُد عليه نقاده بالإشارة إلى أن المساحات المتقلصة من الاستبداد سيتم توجيهها إلى الأقليات الاجتماعية فيما يشبه استبداد الأغلبية ما لم تتم صياغة عقد اجتماعي يحميها من تغوّل النظام الجديد على حسابها.
 

بينما يستمر الصراع بين الطرفين، سيكون مهمًا إلقاء الضوء على الشق الآخر من السجال بين أردوغان وكولن، والذي لا يقل أهمية عن صراعهما على النظام السياسي في الداخل؛ الصراع المتعلق بهوية تركيا في العالم ودورها الخارجي، وهو ما نناقشه الأسبوع المقبل إن شاء الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.