شعار قسم مدونات

هنا موقع الاعتصام

blogs-الاردن

أذكر مجموعة من الشباب في الجامعة الأردنية كنت بينهم، ظللنا نعتصم على مدار سنة ونصف، أحيانًا بالعشرات وأحيانًا كنا لا نكمل عشرين شخصًا، ظللنا نعتصم في ساحات الجامعة ونرفع الشعارات لا يثنينا عن ذلك لا برد ولا شمس ولا نظرات الاستهجان ممن يمرون من حولنا، نقول لهم "يللي بتتفرج علينا حط إيدك بإيدينا"، لننهي وقفاتنا تلك باعتصام مفتوح داخل حرم الجامعة. 
 

البداية كانت عندما أعلنت إدارة الجامعة رفع الرسوم الجامعية بنسب متفاوتة، ولما كان معظم زملائي يستدينون المال للدراسة، وكنت مثل غيري من طلبة الجامعة نعتبر فترة تسديد الرسوم الجامعية عبئًا ثقيلاً على آبائنا، فقد كان هذا القرار خطوة باتجاه حَكر التعليم على الطبقة الغنية في مجتمع يعتبر الغنى فيه حلمًا، حيث تعتبر عمان العاصمة هي الأغلى عربيًّا، كان هذا القرار خطوة باتجاه تجهيل المجتمع.
 

كان محرجًا بالنسبة لي أن أصمد وأستمر في الوقوف والطلاب من حولي يمرون مستهجنين ولسان حالهم يقول: من يعبأ بكم؟

وبسبب الخوف من السُّلطة، الذي يسكن الإنسان العربي، فإن الفئة الشجاعة التي ستبادر للاحتجاج، ستحتاج ثلاث جرآت: الأولى لتعبر عن احتجاجها، والثانية لنشر الوعي وتحريض الآخرين للخروج على هذه السلطة المقدسة المهيبة التي تسلبهم حقوقهم، والثالثة لفعلها حقًّا والخروج للساحات والصمود فيها، وعلى ذلك فقد بدأت هذه الاحتجاجات بعدد قليل للغاية، العشرات فقط.
 

كان أمرًا محرجًا أن أقف بين عشرين فتاة، أمامنا عشرة شبان أو أكثر قليلاً، ونهتف، كنا لا نتجاوز هذا العدد في وقفات عدة، وكان محرجًا بالنسبة لي أن أصمد وأستمر في الوقوف والطلاب من حولي يمرون مستهجنين ولسان حالهم يقول: من يعبأ بكم؟ كان صراعًا في داخلي.

واليوم أشعر بحرج لأنني كنت أتعذر ببرودة الجو لأتخلف عن بعض تلك الوقفات التي بدت حينها بلا طائل.
 

كانت هذه الحالة الانهزامية هي المسيطرة على الشارع الطلابي إزاء قرارات الجامعة، تمامًا كالحالة التي عاشتها الشعوب العربية إزاء أنظمتها لفترات طويلة قبل بدء الثورات الأخيرة، ولا زالت هذه النفسية المنهزمة تعيش بيننا إلى اليوم، أننا عاجزون أمام أي سلطة، ولا نستطيع فعل شيء، إذن فلنغضب بصمت ولنواصل حياتنا كأن شيئًا لم يكن.

لكن التعويل كان على وعينا، وإيماننا بقوتنا، وقدرتنا على فعل شيء ما.

اشتهرت للمهاتما غاندي مقولة: في البداية يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر.
 

استمرت وقفاتنا قرابة عام ونصف بأعداد قليلة وتجاهل من قبل إدارة الجامعة لمطالبنا حتى أعلن التجمع الطلابي عن اعتصام مفتوح داخل حرم الجامعة، لم يغادرها الطلاب وباتوا لياليهم هناك، قرابة أسبوعين دون أي استجابة أو رد فعل من إدارة الجامعة لم يكونوا قد أخذوا الأمر على محمل الجد بعد، "في البداية، يتجاهلونك".
 

لكن إصرار الشباب ورغبتهم في المضي إلى النهاية جعلا من هذا الاعتصام حدثًا مهمًّا في المجتمع المحلي، وكالات أنباء اهتمت به، نواب وأدباء ونشطاء اجتماعيون أعلنوا تضامنهم، كان صمود الطلبة في النوم في الليالي الباردة والممطرة من شهر آذار مبعثًا على الفخر ومحركًا قويًّا للدماء في عروق الجسد الطلابي فسيرت الحراكات الطلابية في بقية الجامعات مسيرات دعم نحو الجامعة الأردنية، وغدا العشرات مئاتٍ ثم ألوفًا تكتظ بهم ساحة الرئاسة وشارعها كاملاً.
 

كنا قد تجاوزنا مرحلة "يسخرون منك" التي تحدث عنها غاندي بعد أن اكتسب الاعتصام المفتوح زخمًا وتفاعلًا كبيرًا، الأعداد المهولة للمعتصمين والمتضامنين معهم جعلت الأفواه الساخرة تغلق الواحد تلو الآخر.
 

كانت الاتهامات التي تكليها إلينا الأطراف التي لم تكن على وفاق مع الاعتصام ومطالبه مبعثًا على الحزن، بعد أن لم يعد بالإمكان تجاهل الشباب الصامدين أسابيع على الأسفلت وآلاف الحناجر الهادرة بإسقاط القرار ولم يثنهم شيء، اتُّهمنا بأننا مخربون، نعطل سير العملية التعليمية، نحمل أجندات خارجية، ونطالب بإسقاط رئيس الجامعة في حينها، أننا نتعاطى المخدرات ونشرب المسكرات، كل التهم الجاهزة من أي سلطة تجاه أي معتصمين وصارخين في وجهها.
 

" ثم يحاربونك، ثم تنتصر".
استمر الاعتصام والمبيت في الجامعة قرابة شهر ونصف، تصاعدت أحداثه شيئًا فشيئًا وتخللها مفاوضات بين إدارة الجامعة وممثلين عن المعتصمين، لكن الزخم الذي اكتسبه الاعتصام خاصة بعد محاولة فضه بالقوة كان قد نقل الأمور إلى مرحلة لا يمكن التراجع بعدها، كانت كل عيون المجتمع تتابع المعتصمين الهاتفين في وجه الرئاسة: أنا طالب مش دولار.
 

كم من قصص نُسجت في ليالي الاعتصام وأيامه التي جاوزت الثلاثين، كم من دروس، كان أهمها أن نثق بنا، بأننا نستطيع .. "ثم تنتصر"

في نهاية الأمر اتخذت إدارة الجامعة قرارًا شجاعًا بالتراجع عن قرارها في رفع الرسوم الجامعية، وعدم تحميل طلبتها مسؤولية عجز الميزانية.
 

في اللحظة التي أعلن فيها قرار التراجع، انتابتني تلك الرعشة وأنا أستمع للرجل التونسي يصرخ في شارع تونس العاصمة ليلة هروب بن علي: الشعب التونسي العظيم، الشعب التونسي ما يمتش، المجد للشهداء، الحرية للتوانسة.

كنا نهتف حينها "المجد للطلبة" إنه ذات الشعور بالنصر، في تونس أو في الجامعة.
 

كم من قصص نُسجت في ليالي الاعتصام وأيامه التي جاوزت الثلاثين، كم من دروس، كان أهمها أن نثق بنا، بأننا نستطيع .. " ثم تنتصر".
 

بعد انتهاء الاعتصام قامت إدارة الجامعة بإزالة لافتة "هنا موقع الاعتصام" التي كنا قد وضعناها، يذكرني هذا بما فعلته القوات الأميركية عندما ألقت القبض على بن لادن وألقت جثته في البحر لكي لا يكون قبره مزارًا بغض النظر عن موقفنا من الرجل، إنه دأب كل سلطة على نسف الرموز المُحَرضة عليها، وترسيخ أخرى موالية لها.
 

لم يكن اعتصامنا المفتوح هذا هو الأول في تاريخ الحركة الطلابية في الأردن، لكن كان له أثره بكل تأكيد، بعد اعتصام الجامعة الأردنية قام طلبة جامعة حكومية أخرى بالاعتصام لأجل نفس السبب، رفع الرسوم، تكتشف فجأة أن كل الجامعات ترغب في سد عجز ميزانياتها من جيوب الطلبة! لكن لحسن حظ أولئك المعتصمين فقد استجابت لهم إدارة الجامعة بعد نصف ساعة فقط.
 

اليوم يقوم طلبة جامعة بيرزيت في فلسطين المحتلة باعتصام مفتوح آخر، مرة أخرى لنفس السبب – يعاني وطني العربي من متلازمة تجهيل الشعوب بكل الطرق- يذكرني اعتصامهم بالقصة التي ذكرتها حول اعتصامنا المفتوح، يذكرني كذلك بقول غاندي: في البداية يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر.
 

كم تتشابه القصص في هذا العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.