شعار قسم مدونات

فلسطيني كامل.. تمامًا

blogs - pal
في الدوحة يقول الهندي حين تسأله عن وجهة سفره: "فيه رُوه بِلاد"، "بلاد" -بكسر الباء وبدون أل التعريف- هي الكلمة الأثيرة التي تتكرر في حديثه عن وطنه، أسرته، وخططه المستقبلية هناك. هذه الكلمة تحمل دلالةً حميمةً جدًا، أسمعها فتمسُّ شيئًا ما في أعماقي. نحن –فلسطينيو الشتات- نحمل مشاعر مختلطة ومعقّدة فيما يخص الوطن وما يدور حوله من أحاديث وأحلام، يتعين علينا دائمًا أن نشرح كيف أننا ننتمي إلى حيث نقيم، شيء يشبه العلاقة بالوطن، أو هو شكلٌ مختلف من هذه العلاقة، ثم يتعين أن نشرحَ أيضًا كيف أننا -في ذات الوقت- ننتمي إلى "فلسطين" حيث غاصت جذورنا وعاش أجدادنا حياتهم. نسميه وَطنًا، ونحبه، غير أن علاقتنا به -هو الآخر- ذات شكل مختلف عما هو طبيعي ومعتاد، مع ملاحظة أن الاختلاف في شكل تانك العلاقتين لا يعني أنهما أقل متانة وانتماءً ووفاءً من العلاقة الافتراضية بين مواطنٍ ووطنٍ طَوى في ربوعهِ سِنِيّ العمر.

ثمة من يَنزِع إلى اعتبار فلسطينيي الشتات أقلّ فلسطينيةً من غيرهم، وفي ذلك مَدعاة للعجب، على الأقل في نظري

إنّ هذين الشكلين المختلفين من العلاقة فيهما تَعبٌ خَفي يحسُه من جرّب الأمر مهما تيسرت أحواله وعاش مرفهًّا أو مستقرًا. إنهما لا يُنقِصان الأوطان برّ أبنائها، لكنهما يزرعان وحشةً في خيالات هؤلاء الأبناء ووعيهم بذاتهم، وفي شيءٍ من تفاصيل حياتهم، تصبح الأمور أغرب وأصعب في تفسيرها، ويتوهون في ذواتهم حين يجيبون بأنهم فلسطينيون فيستطرد السائل "تعيشون فيها؟ أها! تعيشون في الخارج.."، ويُتبع كلماته بإيماءه توحي بأنه لم يستقبل كلمة "أنا فلسطيني" كما هي بالضبط. يقول إدوارد سعيد في كتابه (ذهنية الشتاء: تأملات حول الحياة في المنفى): "المنفى هوّة قسرية لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع. وأيًا كانت إنجازات المنفيّ، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد".

ثمة من يَنزِع إلى اعتبار فلسطينيي الشتات أقلّ فلسطينيةً من غيرهم، وفي ذلك مَدعاة للعجب، على الأقل في نظري. إنهم لم يَروا "فلسطين" ولم يعيشوا فيها، بل وعاشوا وَسْطَ سياقاتٍ ثقافية منفصلة إلى حدٍ كبير في غالب الوقت، ورغم ذلك فقد أحبوها بصدق، آمنوا بها كوطن، حافظوا على هويتهم ولهجتهم الفلسطينية الفاقعة والتي مهما اختلطت بغيرها من لهجات ستعرفها حتمًا. تكادُ لا تجد مِن نسائهم مَن لا تملك ثوبًا فلسطينيًا مطرزًا تتباهى به كطاووس وتسكنه كملاذٍ يشعرها بأنها هي هي، ولطالما ضَرَبت أرجلُ رجالهم أرض الشتات على أنغام "الدحيّة" ودبكت فوقها، لا اختزالًا لمفهوم الوطن وإنما كحباتٍ من ترابه، "المجدرة" و"المقلوبة" و"المسخن" حاضرون بقوة على موائدهم، و"الكنافة" هي ملكة المناسبات. إجاباتهم عن سؤال "من أين أنت؟" لم تخلُ يومًا من اسم فلسطين رغم حملهم لوثائق سفر تخصُّ دولًا أخرى، ورغم أنهم لم يعيشوا فيها بل ومنهم من لم يزرها يومًا، وكلمة "القضية" هي دائمًا ذات دلالة واضحة بالنسبة لهم، هي القضية الأسمى عندهم ولو قصّروا، أم القضايا ومحورها. شخصيًا يحلو لي أن أدعوها "لِبْلاد" (بدون نطق الألف وبتسكين الباء) كما يدعونها من يعيشون فيها، وكما يدعو الهندي وطنه، أقولها وأحاول استشعار أني كنتُ هناك، ليس بجسدي -صحيح- لكنني واثقة أنني كنت هناك في الأزل على شاكلةٍ ما.

وجود واستمرار العلاقة بالوطن الأم وما يخالط ذلك من مشاعر، هو حتمًا أصعب من وجودها واستمرارها لدى من يقطن ذلك الوطن

سمّى الرسول –صلى الله عليه وسلم- من عاصروه ورأوه (أصحابه)، وسمى من آمنوا به ولم يروه (إخوانه)، كان عليه الصلاة والسلام يدرك معنى وقيمة أن تؤمن بما لم تر ولم تتفاعل معه وإنما صدقته بقلبك وتبعته بعقلك، ذلك الإيمان الذي يجعل روحك تثب وحواسك تنتبه لأجل شيء عميق أدركته بداخلك ولم تخالطه جوارحك. في تلك الحالة كان الإيمان هو إيمانهم بالنبي الكريم والدين الذي أنزل به، أما في حديثنا هذا فهو الإيمان بالوطن وقضيته كقضية وطنية خالصة، إضافة لكونها قومية ودينية وإنسانية في دوائر أوسع.

لا أحاول هنا إضفاء أي تفضيل أو نبلٍ خاص على فلسطينيي الشتات (إطلاقًا وطبعًا)، لكنني أحاول فقط أن أقول أنه في ظل البعد والانفصال فإن وجود واستمرار العلاقة بالوطن الأم وما يخالط ذلك من مشاعر، هو حتمًا أصعب من وجودها واستمرارها لدى من يقطن ذلك الوطن فتكون هي نتيجة طبيعية لموقعه من هذا العالم وواقعه المعاش بصفة يومية، وعليه فلا يصح أدبيًا ولا منطقيًا انتقاص "فلسطينيتهم" ولو على أرضية عدم معيشتهم فيها، ومن حقنا أن نَعجَب ممن يجرؤ على ذلك. إن فلسطيني الشتات وإن اختَلفَ قليلًا فهو فلسطيني كامل.. تمامًا.

ختامًا أتساءل: هل يعقل أن نشهد بعد عقدين مثلًا من ينتقص من "سورية" الجيل الثاني من اللاجئين إن استمرت أزمتهم؟ هل ستظهر "الطبقية الوطنية والهوياتة" بناءً على بقعة الأرض التي ساقتهم أقدارهم إليها قسرًا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.