شعار قسم مدونات

المثقف بين الأدب وقلته!

blog-كتاب

منذ زمن ليس ببعيد، منذ كانت الكتب العتيقة ذات الرائحة الزكية والأفكار النقية وشخصيات عشقنا حروفها ودارت بنا بين السطور والحواشي، مغدقة علينا قدرا من الاحترام لعقولنا وتفكيرنا، كان الأديب المثقف قد اختار سبيل الأدب لأنه يجد فيه تعبيرا روحيا يحاكي أفكاره من خلاله بطريقة فنية بشرية تجسد الطبيعة التي ينساق فيها الإنسان لرغبته في التعبير والبوح، كرسامٍ يرسم لوحة أو نحات ينقش تمثالا ليوصل رسالة مختنقة بين شفتيه أطلقها بريشته أو إزميل النحت الخاص به.

في ذاك الزمان، كان الأدب يعتبر أسلوب حياة لأهله، يتنفسونه دون ادعاءٍ أو تظاهر ورياء، في الواقع لم يكونوا بحاجة لذلك، لأن الأدب كان صفة توافق الجِبِلَّة التي جُبلت أنماط تفكيرهم عليها، فوجدوا الأدب والكتابة والقراءة تصرفا طبيعيا يلبي الحاجة في النفس الناشئة.
 

هذه النصوص الأدبية التي باتت "قليلة الأدب" أجدها محاولة فاشلة على المدى البعيد لتعويض النقص الذي يعانيه هؤلاء الأدباء الافتراضيون وتحقيق وهم الشهرة لديهم

آنذاك لم تكن الصفة -أي الأديب والمثقف- تحقق مردودا في نفوس الصادقين ممن يوصفون بهذه الصفة غير الغاية السابقة الذكر، أي الحاجة إلى التعبير، لذلك لم يكثر عدد الذين يوصفون بهذه الصفة لأن الجمع الأكبر من المجتمع كان قد اختار طريقه في العيش -كبت التعبير- أو الانسياق وراء غريزة مجتمعية سائدة للتعويض عن الحاجة إلى التعبير ألا وهي الاستياء والسخط على من وجدوا طريقهم في البوح والنطق (أقصد الأدباء) ثم الانشغال عن هذه الحاجة بمشاغل البحث عن لقمة العيش والقبول بالعقلية النمطية المتمثلة بانتقاص الذات والتهرب من المسؤولية والحق في التعبير مما أدى لحدوث حالة جهل في الحقوق ثم بطبيعة الحال الاستعباد..

أما المثير والمضحك في زماننا هذا فهو محاولة نفس الفئة التي حملت عقلية القبول والخضوع للعودة إلى التعبير بطرق شتى ومنها التخلق بأخلاق الأدباء وافتعال التثقف الكاذب، وبالتوازي مع هذا القول كان هناك أمثلة عديدة تستحق الاحترام خرجت بفهم صحيح من العبودية نحو الثقافة والأدب الحقيقيين. أما أصحاب الفهم الخاطئ لمفهوم الأديب وأخلاقياته وهم من أتحدث عنهم فقد كثروا وضلوا وأضلُّوا تحت أضواء الشهرة وهالة من الاهتمام حولهم من نفس هذه الفئة بصورتها المستعبدة بجهل الحق، فشوهوا صورة الأديب بكتب لا تدقق وحروف منقولة محرفة، واقتباسات فكرية معارضة للمجتمع من منطلق "خالف تُعرف".

هذه النصوص الأدبية التي باتت "قليلة الأدب" أجدها محاولة فاشلة على المدى البعيد لتعويض النقص الذي يعانيه هؤلاء الأدباء الافتراضيون وتحقيق وهم الشهرة، وسرعان ما ستنطفئ لديهم بسبب هذا الوهم الكاذب شعلة الإرادة للاستكمال وتطوير الذات ورفع المستوى لأن الغاية في الأصل تعويض حالة حرجة من النقص وفي ذات الوقت هو تعويض مؤقت لا يعالج أبدا هذا النقص على المدى البعيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.