شعار قسم مدونات

في خدمة البحوث الشرعية

Blogs - Books - Deen

قد تكون خدمة العلوم الشرعية هي المهمة الأسمى لباحث العلوم الاجتماعية المسلم، أو هكذا يرى كاتب هذه السطور.

تلك ليست مجرد كلمات لمواساة النفس ولجم شوقها ناحية مدارج وسبل العلم الشرعي، وإن كانت جزئيا كذلك، إلا أنها أيضا ضرورة يفرضها الالتزام العقدي للباحث المسلم في العلوم الاجتماعية من جهة، وواقع المجتمعات المعاصرة وعلاقاتها من جهة أخرى.
 

إن الأدوات الإحصائية والكمية هي الأدوات والأساليب الأنسب للحصول على تقديم المعرفة بشكل علمي

قد يرى البعض أن العلوم الاجتماعية ومناهجها الغربية الحديثة علوم تجريبية وجدت لرصد واقع العلاقات الاجتماعية من خلال الملاحظة الحسية والاستنتاج العقلي لعلاقات سببية في الخارج، بعيدا عن غير المرئيات والمعتقدات ومصادر معرفتها، أي الوحي. بل قد يشير البعض إلى أن العلوم الاجتماعية الحديثة ظهرت في مواجهة الوحي كمصدر للمعرفة. وبالتالي أي فائدة قد ترجى من حامل هذا النوع من المعرفة سواء كان مسلما أو غير مسلم.
 

على الرغم من بعض الحق الذي يشتمل عليه التوصيف السابق للعلوم الاجتماعية، فإن هناك مشكلة رئيسية تظهر في هذا التوصيف تكرس للزهد فيها والريبة من حاملها، ألا وهي اختزال البناء المعرفي للعلوم الاجتماعية في الجانب المنهجي فقط، كأي مشروع معرفي يعتمد بناء العلوم الاجتماعية على افتراضات حول إمكانية معرفة العالم وطبيعة تلك المعرفة (Epistemology) وافتراضات حول طبيعة الوجود المراد معرفته (Ontology) وأساليب وأدوات الحصول على تلك المعرفة من هذا الوجود (Methodology).
 

عادة ما ينجو من هذا الاختزال العنصر الأخير، بل إنه أصبح -حتى في الدوائر الأكاديمية الغربية- أساسا لإنتاج المعرفة الاجتماعية بدلا من كونه أحد أدواتها. هذا الاختزال له أسبابه والتي تتلخص في هيمنة المدرسة الوضعية (Positivism) على العلوم الاجتماعية لفترة طويلة.
 

يتبنى هذا التيار المسيطر افتراضات معرفية تتلخص في التأكيد على المعرفية الحسية التجريبية كنوع المعرفة الوحيد الممكن عن الوجود، وأن هذا الوجود عبارة عن علاقات سببية بين ثابتة وضرورية في الخارج كما ذكرنا، وبالتالي فإن الأدوات الإحصائية والكمية هي الأدوات والأساليب الأنسب للحصول على تقديم المعرفة بشكل علمي.
 

إذن ما يتعامل معه أكثر الباحثين المسلمين أو غيرهم هي تلك الأدوات والأساليب المناسبة للحصول على المعرفة، بناءً على تلك الافتراضات المعرفية الوجودية غير القابلة للمراجعة، في هذا الإطار المنهجي الضيق لا تلعب تحيزاتك كمسلم أي دور.
 

في هذا الإطار إما أن تكون مشتغلا بعميلة استقرائية (Induction) تقوم من خلالها بدور جامع البيانات، منتظرا أن تتشكل تلك البيانات سببيا لتقترح عليك فرضية سببية تحاكي علاقة سببية في الخارج، ومن ثم تخضع تلك الفرضية لعدد من الاختبارات الإحصائية قبل أن تعلن عن اكتشافها. أو أن تكون منشغلاً بعملية استدلالية استنتاجية (Deduction) لتفسير ظاهرة اجتماعية ما من خلال إحدى النظريات العلمية المثبتة، ومن ثم تعلن علميا عن تفسيرك لتلك الظاهرة أو الحدث الواقعي طبقا لنظرية السلام الديمقراطي أو توازن القوى أو غيرها من النظريات المثبتة.
 

عند الأخذ بالاعتبار الطبيعة التراكمية للمشاريع المعرفية، قد تجد أن استدلالك واستنتاجك مبني على استقراء من قبلك، وطبقا للافتراضات المعرفية والوجودية القائلة بإمكانية الحصول على المعرفة وتجميع البيانات حول الواقع بشكل موضوعي، فإن هذا لا يضير استدلالك باستقراء من قبلك.
 

إن تحرير الواقع من خلال وسائل وآليات العلوم الاجتماعية، بل الاستئناس ببعض قوالبها المفاهيمية لخدمة الأبحاث الشرعية، أمر ممكن بل قد يكون مرغوبا أيضا

هنا تظهر الحاجة لمراجعة تلك الافتراضات، فإن من سبقك في إنتاج معرفة حول قانون سببي لم يقدر على -أو يرغب في- تحويل عقله إلى صفحة بيضاء عند ملاحظة وتسجيل البيانات، بل أجبرها أو ساسها لأقفاصها الفكرية في بنائه الذهني حول طبيعة المجال الاجتماعي ذي العلاقة، بل وطبيعة العلاقات الاجتماعية بشكل عام والنفس البشرية والوجود.
 

تلك ممارسة لا تحتوي على أي نوع من الألاعيب العقلية، هي فقط نشاط عقلي طبيعي اختارت العلوم الاجتماعية الحديثة أو تيارها المسيطر تجاهله، إذن هناك مساحة فطرية سابقة أو على الأقل متداخلة مع العملية لجمع المعلومات، تسمح للباحث بتبني تصنيف توصيف وتصنيف لتلك المعلومات طبقا لمفاهيم وأفكار وخبرات سابقة، تلك المساحة هي التي تسمح أو توجب على الباحث المسلم استحضار عقيدته ورؤيته الكونية قبل وأثناء المجهود المنهجي، أي أن المقايضة بين معتقداتك وبين أدواتك إذا أحسنت الكشف عن استخدام مواطن التثبيت المنهجي وإعادة دمج النتائج في مشروعك البحثي الأشمل.

إذا قبلنا أن توصيف وتصنيف وترتيب الحصول على المعرفة التجريبية الإمبريقية أمر ممكن بل مؤكد، وأن الحصول على تلك المعرفة في شكل بيانات وإخضاعها لتحليل إحصائي ليس حكرا على حضارة معينة ومشروعها المعرفي؛ وجدنا أن تحرير الواقع من خلال وسائل وآليات العلوم الاجتماعية، بل الاستئناس ببعض قوالبها المفاهيمية لخدمة الأبحاث الشرعية، أمر ممكن أيضا بل قد يكون مرغوبا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.