شعار قسم مدونات

معركة الإسلام فوق رؤوس الفتيات (1)

blogs-حجاب
بعد الأحداث الأخيرة لبروكسل، عندما بدأت الحياة تستعيد شيئا من وتيرتها الطبيعية، ذهبتُ مع صديقة لي إلى إحدى الأمسيات الشعرية.

في نهاية الأمسية، رفعَت صديقتي يدها وطرحت سؤالا جميلا، جميلا لدرجة ارتفعت الأصوات في الصالة تعبيرا عن الإعجاب به، ورافق ذلك شكر وإطراء من الدكتور الذي كان يدير الحوار.
 

واقع المرأة المحجبة يضج بالمعارك والأحاسيس المشتتة بين نشوة الانتصار وخزي الانهزام

لم ينته الأمر عند ذلك الحد، ولكن عندما هممنا بالرحيل، تلقينا الكثير من الابتسامات من هنا وهناك، وتقدم البعض الآخر لإلقاء التحية والحديث معنا.

كنت مسرورة حينها، ولكنه ليس ذلك السرور الطبيعي الذي قد تستشعره أي فتاة في موقف كهذا افتخارا بصديقتها، إنما هو سرور يرجع بشكل واضح لا مواربة فيه إلى كوننا المحجبتين الوحيدتين في قاعة مملوءة بالأجانب، حيث التفَتت الأنظار إليهما في أمر إيجابي في وقت لا تزال الكثير من محطات المترو في الخارج مغلقة من أثر "الإرهاب".

قلت لها مازحة (بل ربما كنت جادة): "هكذا إذا، من الآن فصاعدا عليكِ أن تجهزي نفسك لطرح الأسئلة في أي مكان نذهب إليه". كأنني اكتشفت صدفة إستراتيجية جديدة "لغزواتنا" المقبلة.

أسوق هذا المثال البسيط هنا لأنني أدرك تماما أن واقع المرأة المحجبة يضج بهذه المعارك والأحاسيس المشتتة بين نشوة الانتصار وخزي الانهزام.

أغلب صديقاتي المحجبات، لكي لا أقول كلهن، يحملن هاجس "التشريف بالحجاب" في حياتهن اليومية: طموحاتهن، نجاحهن العلمي والعملي، إذا أحسنّ فهو نجاح "للمرأة المحجبة" قبل أن يكون نجاحا شخصيا، وإذا أسأن فهو إحساس بالعار لإعطاء صورة سيئة عن شيء يتجاوز ذواتهن الضعيفة.

لا أريد أن أكون مثالية جدا وأطرح عليكم ذلك السؤال: "لماذا نحتاج دائما لإثبات شيء ما للآخر؟ ولماذا يسكننا هاجس إعطاء صورة جيدة عن الإسلام؟ إننا نعيش في عالم كل أصابع الاتهام تشير فيه إلينا، وإننا نعلم في قرارة أنفسنا أننا نستحق الكثير مما نتهم به، ولكن يبقى داخل هذه الإشكالية أن المرأة المسلمة التي اختارت ارتداء الحجاب بالتحديد تحمل على عاتقها الجزء الأكبر من هذا الهم إن صح التعبير.

لا أريد أن أتطرق هنا للمضايقات أو تقييد الفرص الذي قد يعترضها بسبب ذلك، إنني فقط أستجيب لهذا الضجيج الدائر حول ماهية الحجاب، والذي وإن كان يشكل هرجا ومرجا في أغلبه، فإنه كفيل بأن يجعلني أطرح على نفسي هذا السؤال البسيط جدا: لماذا الحجاب؟ إذ على ما يبدو أن كل شيء في هذه الحياة بدأت تطوله لعنة البحث عن الإجابات الجديدة ولا شيء من تلك البديهيات التي كنا نتكئ عليها طويلا صار مقنعا.

حسنا، لا أريد أن أخبركم بذلك الاكتشاف العظيم الذي صار يعرفه أغلبكم، بأن المرأة ليست قطعة حلوى تحتمي من الذباب، ولا حتى لؤلؤة مكنونة في عالم المجوهرات، ولا حتى زمردة مخبوءة في كوكب سبيستون. هل لأن هذا التصور التشييئي المبتذل أصبح متجاوزا لا أريد الحديث عنه؟ طبعا لا، بل الأكثر من ذلك، أعتقد بأن الكثير من رواسبه حاضرة حتى في مخيال الكثيرين من أولئك الذين يسخرون منه وينتقدونه.

ما أود الحديث عنه هنا هو جزئية أخرى تشغل تفكيري في الآونة الأخيرة، وهي تخص الحجاب بوصفه جزءا من الهوية، حيث أعتقد بأن الصراعات الدائرة حول الحجاب الآن تصب كلها في النهاية في هذا الجانب بشكل أو بآخر.

ما يجعل معركة الحجاب مؤسفة هو أننا عندما نتمعن في جميع تجلياتها ومناحيها المختلفة، نجدها تتغذى بشكل واضح على نوع من الوصاية على جسد المرأة

أوروبا في صراعها مع الرموز الدينية وتواجدها في نطاقها العام من جهة، والإسلام الأوروبي ومخاضه في الانسجام مع القيم الغربية من جهة أخرى، والعالم الاسلامي وتضخيمه الحجاب كنوع من التشبث السطحي بهويته الدينية حين عجز عن تحقيقها على وجه الحقيقة من جهة ثالثة.

المشكلة أن معركة الحجاب هي، ككل تلك المعارك التي تُفرض علينا، واقع لا يمكن تجاهله، ولكن ما يجعل هذه المعركة مؤسفة حقا هي أننا عندما نتمعن في جميع تجلياتها ومناحيها المختلفة، غربا وشرقا، نجدها تتغذى بشكل واضح على نوع من الوصاية على جسد المرأة.

الغرب الرافض للحجاب يدعي رغبته في تحريرها من سجن زيها الذي فرضه عليها مجتمع وفكر ذكوريين، وبلاد الإسلام تجعل من الحجاب ذروة سنام الدين، وتحجز له نقاشات مغلوطة لا تقل خطورة عن تلك التي تعج بها الساحة الغربية.

بين "البروباغاندا" التي تقوم الآن بسبب لباس السباحة المسمى البوركيني في شواطئ فرنسا وردات الفعل العنصرية التي يضج بها المجتمع الفرنسي بهذا الخصوص، وبين الاهتمام الرهيب الذي حظيت به ملابس الرياضيات المسلمات المشاركات في ألعاب الأولمبياد الأخيرة على سبيل المثال، والذي أعتقد بأنه أخذ حيزا أكبر من مشاركتهن في حد ذاتها، كما لو أن الحدث كان يخص عرضا للأزياء وليس مناسبة رياضية؛ نستشعر كمية البؤس التي يضج بها هذا النقاش في الجانبين.

إنها ثلاث معارك مختلفة حسب ما أرى، ولكنها مترابطة ومتداخلة في ما بينها، وأنا هنا لست بصدد تنظير فكري عميق ولا طرح علمي دقيق، وإنما أدون خواطري بصفتي فتاة محجبة تنتمي إلى بلد عربي وتعيش في آخر أوروبي، الجغرافيا والتاريخ يفرضان على كليهما التقاط شيء من نوبات الصرع التي تصيب "الماما فرنسا"، وتنتمي قبل ذلك إلى أمة ما زالت تطرب لانتصارات النخوة والمروءة المتمثلة في ستر "الحرمة" وإخفائها عن أنظار الغرباء، وهذا ليس تهكما على خصال حميدة قد تتواجد في مجتمعاتنا العربية، وإنما مرثية أندب فيها إعوجاج الفهم الأخلاقي والديني معا واستجداء الهوية في عادات وتقاليد أقل ما يقال عنها أنها بائسة.

وبالتالي، عندما أتحدث عن "ثلاث معارك" تخص الحجاب، فأنا لا أتحدث هنا سوى عن انعكاس الواقع الذي أعيش فيه عليّ أنا شخصيا وما يصل إليه فهمي. ولعلي أتحدث عن هذه المعارك كما أفهمها بتفصيل أكبر في الجزء الثاني من هذه التدوينة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.