شعار قسم مدونات

غزاوي عاطل عن العمل

blogs-gaza

تخرّجت حديثا من جامعة غزّة، كان الأمر أشبه بحلم يتحقّق بالنّسبة لي أو كأن الله استجاب لدعاء شقيقي الأكبر الذي أُرهق كاهله من تحمل مصاريف الدراسة، فهو إلى جانب ما تكبده عليّ كان عليه الإنفاق على عائلتين لا واحدة، أسرته الجديدة النامية وبيت العائلة بعد وفاة أبي.
 
 

"لا بأس" .. قلت لنفسي وأنا أنزع "زي/ لباس التخرج" وأعلقه على مسمار هرم في الحائط، فغدا أبدأ رحلتي في البحث عن عمل وبعد شهر على الأكثر -إن شاء الله- أكون معاونا لهذه الأسرة لا عالة عليها. تمددت غمامة الأمل التي بنيتها فوق رأسي قبل النوم أكثر وأنا أذكر نفسي باختصاصي في علم الحاسوب الذي طالما سمعت الخريجين يتحدثون عن كونه مجال العصر وأن كل شيء أصبح اليوم يجري من خلاله. 
 

استيقظت في اليوم التالي بحماسة، وشربت كوبا من الشاي على عجل بينما كنت أتفقد الأوراق والشهادات التي بين يدي من جديد، راحت أمي تمسح بيدها الخشنة قميصي وهي تتمتم بآيات وتتبِعها بزغاريد، لا شك أنها شعرت بسعادتي حتى وأنا أُحاول إخفاءها بخجل فراحت ترفع صوتها ضاحكة:
الله يحرسه المهَندِس هاني.. الله يجعلك بكل خطوة بركة.. الله يوقف ولاد الحلال بطريقك.. 
 

استطالت ابتسامتي وأنا أهز رأسي يمنة ويسرة بانقطاع رجاء؛ كم مرة أخبرتها أن دراستي للحاسوب لا تعني أنني مهندس وعبثا حاولت، فمنذ أن سَمِعَت بأن محمود "أبو رمضان" ابن جارنا "أبو علي" قد درس هندسة الحاسوب في عمّان، وهي تعتقد أنني مهندس أيضا.. 

قبلت رأسها وغادرت، وتكفلت هي بزراعة الأدعية في دربي حتى غبت خلف المباني وغاب صوتها. 
 

لا يزال هذا الحي الذي أقطنه يعاني مرارة القصف الذي ألحقه الاحتلال الصهيوني بتل الهوى عام 2008، ولكنني بعد ست سنوات لا أزال آمل أن نجعله أفضل وأجمل، أذكر أنني كنت أصرح بهذه الفكرة لصديقي عامر ونحن على مشارف الثانوية العامة حينها، وكان يكرر على الدوام: "وشو الفايدة إذا بنيناه وردت إسرائيل قصفتنا"! 
 

كل خطوة كنت أخطوها كانت سببا في أمرين، وجع مرير في أقدامي لم ينته لليلتين، ونقصان في حماستي وأملي ومخزون التفاؤل لديّ

لم أقتنع بوجهة نظر عامر يوما، ولا أعلم إن كان قد اقتنع بوجهة نظري أم لا فقد رحل بعدها بعام إلى كندا بصعوبة بالغة بعد أن ترك المدرسة ولم يحالفه الحظ في إيجاد وظيفة، وانقطعت الاتصالات بيننا مع الانقطاع المتكرر للكهرباء.
 

مرّت ساعات طويلة وأنا واقف في طابور الخدمة المدنية لتقديم الطلب، يتحرك السرب كل عشر دقائق خطوة أو خطوتين، ولسبب أجهله كنت أعتقد أن العدد يزداد ولا يقل لربما صرت أهلوس من الوقوف والتعب. فمن مبنى إلى آخر ومن مؤسسة حكومية إلى أخرى، من موظف مسؤول متغيب عن عمله إلى آخر لا يستقبل طلبات توظيف في الفترة الراهنة، وتلك تخبرني بأن أملأ طلبا وأضعه فوق كومة من الأوراق المُهملة قبل أن تكتشف أن الطلبات نفدت أوراقها وأن آلة الطباعة تخلو من الأوراق فتطلب مني أن أكتب معلوماتي ورقم هاتفي على ظهر كراسة ما! 
 

كل خطوة كنت أخطوها كانت سببا في أمرين، وجع مرير في أقدامي لم ينته ليلتين، ونقصان في حماستي وأملي ومخزون التفاؤل لديّ. بعد أسبوع واحد كنت أخرج مستمرا في عملية البحث دون أوراقي، فلم تعد شركات العلوم التطبيقية والحوسبة والأنظمة والبرمجة هي مطلبي فحسب، قصدت شركة منظفات ومكسرات وكراجات سيارات وبقالات صغيرة ومخيطة! 
 

هذه المدينة متعبة تماما مثل أهلها، غزة..!
كنتُ أتساءل كيف لا تزال قادرة على الوقوف على قدميها بعد كل ما حدث ويحدث، وكيف أن الشمس لا تزال تشملنا بأشعتها كل صباح.. أسندت رأسي إلى سور بيتنا قبل أن أطرق الباب وأخبر أمي بالخيبة الجديدة، راقبت الشمس وهي تغيب وتطوي معها كل شيء..!
 

تفطنت للأمر.. ! "أكل شيء حقا..؟ بما فيها الأمل.. واليأس؟!".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.