شعار قسم مدونات

بقايا ذاكرة

blog ذكريات

كلما قمتُ إلى الصلاة تذكرتُ أولَ صلاة لي يوم كنتُ طفلا في السابعة. كنتِ تقولين لي إن الله يفرح ويضحك مع ملائكته عندما يراني أصلي. كانت مشكلتي مع الصلاة آنذاك هي أنني أكره الارتباط بالمواعيد التي أعلمُ أنها ستأخذني من اللعب. أحب أن أكون حرّا دائما، أملك نفسي ووقتي. ولكن هيهات، فمن أين الحرية للأطفال وفي الحياة مدرسة لها مواعيد ثابتة، وللمدرسة حافلة لا تنتظر المتأخرين؟

يقولون إنني عندما تذمّرتُ من حافلة الروضة وضاق بتأخّري سائقـُها أصبحتِ تمشين بي إلى المدرسة طيلة عام كامل. لا أتذكر من ذلك العام إلا يوما واحدا. أذكر ذلك اليوم بسبب بنطال الجوخ الرمادي الذي شعرتُ قبلَ وصولنا إلى المدرسة ببضع خطوات أنه خشنُ الملمس وطلبتُ منكِ العودة إلى البيت لتبديله، وفي طريق العودة كنتُ متعبا من المشي فحملتِني على ظهرك.
 

هي الحرية فقط تلك التي أتنفّس هواءها فيمتلئ صدري بأسرار الحياة حتى ولو كان زمانها محدودا بمسير من المدرسة إلى البيت

لا تعتبي على ذاكرتي فأنا بالكاد أذكرُ يومين من خمس سنوات كنتُ أمشي فيها إلى المدرسة جيئة وعودة. ومع أنني أهتمّ بالتفاصيل، أو هكذا يقال، لا أجد في رفوف ذاكرتي من تفاصيل الماضي إلا القليل. كان الطريقُ إلى المدرسة وعرا موحلا. شارعٌ واحد أقطعه من بيتنا إلى زقاق بيت جدي، ثم انعطف عند دكان الجزار فأجد عاملَه ينظف الرفوف وهو يردد ما تغنيه فيروز في الإذاعة. دقيقة أخرى وأصير بمحاذاة ذلك البيت المهجور ذي الباب الأزرق الذي أجهل حتى اليوم سرّ المرأة العجوز التي كانت تزوره أحيانا. ودقيقة أخرى وهذا بابُ المدرسة.

المدرسة، لا حرية هناك! التلاميذ بطبيعة الحال يقبلون أيّ شيءٍ يُمنَحونه، حتى لو كان ضربا بأعواد الخيزران، ويشعرون بأن غياب أشياء كثيرة أسوأ من الضرب هو بحد ذاته منحة. لا أحب الحديث عن المدرسة، ولا عن ذلك الشاب الضخم (بالنسبة لنا آنذاك) الذي يكبرنا بثلاث سنوات ولا عن أخيه الصغير الذي كان يفرح عندما يأمره أخوه الأكبر بضرب الأطفال الذين لم يوهبوا بسطة في الجسم، ويقف متفرجا.
 

أما طريق العودة.. 
كلّ ركن من أركان هذه المدينة كان يبتسم لي، وكانت سماؤها أشبه بنافذة الكوخ المتواضع التي تطل على شيء من الجنة. هي الحرية فقط تلك التي أتنفّس هواءها فيمتلئ صدري بأسرار الحياة حتى ولو كان زمانها محدودا بمسير من المدرسة إلى البيت. ما أجمل أن يملكَ الغرّ شيئا من نفسه ومن وقته، وما أجمل الجهل الذي يحجب إدراك النواقص.

أما الصلاة – رحمكِ الله – فلم تعد تلك الحركات التي يؤديها الصبي متضجرا على عجل. بل صارت منتأى النفس ومستودع القلب، لكِ فيها ورد معلوم.

لم أبح لكِ يوما بأن السير وراءك على درجات البيت الجديد كان يغيظني، كنتُ أصبرُ فحسب. كان البيت شقة في الطابق الثاني يستغرق الوصول إليها صعود أربعين درجة، وذلك أمرٌ يأخذ فيه الصبي بضع ثوان لا خمس دقائق كما كانت الحال معك. غير أنّ الحال تغيرت عندما أصبحتِ بحاجة لإمساك يدي على الدرج. كانت يدي بيدك وذهني شاخص هناك على باب المدرسة أراكِ عبر المدى تحملينني إلى كل نهاية بلغتُها إلى يومي هذا. 

أما الصلاة – رحمكِ الله – فلم تعد تلك الحركات التي يؤديها الصبي متضجرا على عجل. بل صارت منتأى النفس ومستودع القلب، لكِ فيها ورد معلوم

قد كنتُ أشفق من دمعي على بصري / فاليومَ كلُّ عزيزٍ بعدَكم هانا
إذا قدمتُ على الأهوال شيّعني / قلبٌ إذا شئتُ أن أسلاكمُ خانا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.