شعار قسم مدونات

اليوم الأخير في داريا

blogs-داريا
داريا لم تُهزم؛ فالمدينة التي صمدت لأربعة أعوام انتصرت منذ اليوم الأول، منذ حملت الأكفان والنعوش والحمام وأغصان الزيتون في مواجهة المدفعية وآلة الحرب التي استهدفت مظاهر الحياة، وكرست لأخلاقيات لن ينساها الأحرار ما داموا ينافحون عن حق وحرية.
 
داريا غياث مطر لم تُهزم؛ لأن الأخلاق هي من تنتصر، ولأن من قاوم وسع يديه وما ملك لن يخرج إلا شامخ الرأس وإن خسر الجولة، والمبادئ هي النصر وإن تأخر. 
 
اليوم هو يوم وداع المدينة.. المشهد جنائزي.. وكأن المدينة تحتضر وتلفظ أنفاسها الأخيرة بحضرة أبنائها البررة

يخرجون قوافل من المدينة نحو المجهول، نحو أخف الضررين، فصمود أربع سنوات كان كفيلا بأن يسطر انتصاراً لنهج داريا في المقاومة، ولإنسان داريا الذي اختار الأرض والتمسك بها حتى النهاية، حتى ما بعد تخلي العالم عنه، وتخاذل القريب قبل الغريب. 
 

اليوم هو يوم وداع المدينة.. المشهد جنائزي.. وكأن المدينة تحتضر وتلفظ أنفاسها الأخيرة بحضرة أبنائها البررة.. الكل يغلب عليه الصمت والذهول.. ولا لغة تعلو على لغة الصمت والحزن، فالخطب جلل، والمدينة التي التحمت بروادها وأبنائها في أحلك الظروف ستغدو وحيدة خاوية خلال أيام قادمة. 
 

يقبلون جدران المدينة وترابها، ويأخذون صوراً تذكاريةً مع قبور شهدائهم فلعلهم لا يطؤون المدينة ثانية، أو لعل أصحاب القبور لا يحتملون البقاء في مدينة نزعت منها روحها وهُجّر أهلها.. كيف للعنب أن ينمو ثانية بداريا وأهلها قد أُبعدوا عنها؟ 
 

يجلسون على ركام بيوتهم ينتظرون حوافل التهجير القسري الذي فرض عليهم كما فرض على إخوتهم من قبل في الزبداني وحمص القديمة.. الكل هنا يستذكر وداع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لمكة "والله إنك أحب البقاع إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".. يستذكرون الهجرة.. يمنّون أنفسهم بالمنحة التي تولد في قلب المحنة.. من قلب الهجرة. 
 

المدينة المسواة بالأرض تنتحب أبناءها.. ما أصعب لحظات الوداع وما أقساها.. الأرض تودع أبناءها الذين سقوها من دمائهم حتى ارتوت وفاضت بحكايا الصمود وأساطير حب الحياة.. الوداع شكل من أشكال الموت المعجل. 
 

ما قيمة المدن إن أفرغت من أهلها وروحها النابض.. ما قيمة الجسد إن انتزع منه قلبه فنُهبت منه الحياة.. وما قيمة الإنسانية الزائفة حين تتفرج على الإنسان الذي تنزع منه حياته وأرضه باتفاق مخطوط ما بين الضحية والجلاد.. يساوم ذاك الآخر على حياته مقابل أرضه.. الحياة مقابل الأرض.. وإلا فالمحرقة قادمة، وستنزع حياة ثمانية آلاف شخص محاصرين خلف أسوار المدينة.. وستنزع الأنفاس الأخيرة للمدينة التي تنازع ألما وظلماً. 
 

الكل هنا هائمون في المدينة، يلقنون الأرض كلماتهم الأخيرة ووصاياهم؛ ألا تقبلي الغريب والقاتل والفظيهم، وأن كوني وفية لدماء الشهداء.. يتجهون لقبور ذويهم يودعونهم الوداع الأخير على أمل عودة قريبة.. يودعون زوايا المدينة وثناياها المفعمة بروح أهل داريا.. بروح الحياة رغم الدمار الذي ألم بها. 
 

أب يمسك بيد طفله ويدور به في أرجاء البيت المدمر "أتدري ما الوطن يا بنيّ؟ الوطن ألا يحدث كل هذا" ويخفي دمعته المنهمرة من مقلتيه عن مرأى طفله.. فالموقف بالنسبة له موقف ثبات وصمود ودرس سيرسخ في ذهن طفله تمسكه بالأرض والوطن. 
 

طفلة تبكي ألعابها التي واستها طيلة سنوات القصف والحصار.. شيخ طاعن في السن، انحنى ظهره، يتكيء على قبر كان أوصى أولاده بأن يُدفن فيه بعد الممات.. يودع قبره ويمضي، وأم ثكلى تبكي فراق قبور أبنائها الذين قدمتهم فداء للأرض. 
 

الصمت يلف المدينة إلا من صوت البكاء.. الكل يبكي هنا حتى ذرات البيوت المدمرة.. وصوت بالأفق يصرخ من بعيد "الدموع لا تسترد ما ضاع ولا تجترح المعجزات.. أنتم باقون هنا وإن رحلت أجسادكم".. يقاطع ذلك الوجوم صوت عواء الحافلات التي تدير محركاتها إيذاناً بالرحيل. 
 

داريا لم تكن البداية، فالتهجير القسري مر بحمص وبالزبداني من قبل.. وما يحدث لا يقل بشاعة وإجراماً عن جرائم الإبادة الجماعية

اللحظات الأخيرة هي الأشد ثقلاً وصعوبة على السكان.. الكل يودع الكل، كل يعانق جاره، يعانق أقرباءه، ويعانق حتى ذرات هواء المدينة وترابها.. البعض أخذ حفنة من تراب الأرض لتذكره بحق العودة المقدس. 
 

يصعدون طوابير إلى الحافلات بخطىً متثاقلة نحو الأرض، نحو الوطن.. "قف ساعة أيها الزمن.. فقد خذلنا من حولنا فلا تكن معهم، لا تمضي بنا نحو مجهول" يتمتمون لعل الحال يتبدل، ولعل الزمن يتوقف بهم على حدود المدينة. 
 

حين تمضي الحافلات يحاول المُبعدون أن يجمعوا بذاكرتهم اللحظات الأخيرة والمشاهد الكلية والجزئية للمدينة قبل أن تغيب عن ناظريهم وتصبح من الأطلال والذكريات.. يهمس شيخ كبير بأذن حفيده "لا تخطئ خطأنا يا بني.. أخطأنا حين ظننا أن الوطن هو الماضي فقط.. الوطن هو المستقبل". 
 

داريا لم تكن البداية.. فالتهجير القسري مر بحمص وبالزبداني من قبل.. وما يحدث لا يقل بشاعة وإجراماً عن جرائم الإبادة الجماعية.. فتهجير شعب يعني قتله وقطع جذوره.. تهجير برعاية دولية!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.