شعار قسم مدونات

الوطن المتقاعد

blogs-arab

نعم إنه وطننا العربي، ذلك الوطن الفتي الذي ينبض شباباً وحيوية، بوجهيه الآسيوي والأفريقي، كالملك والكتابة، مهما رميته إلى أعلى يعود كما هو، لا يتغير لأن كل الوجوه تؤدي إلى ذلك الوطن.

هذا الوطن الذي قرر أغلب أركانه أن يتقاعد قبل أوانه بقرون، شاخ قبل تساقط أوراقه، ولم يأبه لسكانه، ولم يأخذ إذنا إذ جلس متوانينا معلناً نهاية الخدمة، رافضاً أن يعود.

في القرن الماضي، وقبيل نهاية الدولة العثمانية التي كانت مترامية الأطراف، وكانت تملك أراضي لا تغيب عنها الشمس أبدا، آنذاك شبهها ملوك وحكام أوروبا بالرجل المريض، وكانت بالفعل كذلك، ضعيفة هشة، وكانت بالفعل كذلك، إلى أن اندثرت وأصبحت قصصا وحكايات، أو حتى مسلسلات يتفاخر بها أتراك اليوم.

أما اليوم فأوطاننا باتت لا يغيب عنها الليل، فهي ليست مريضة ولم تحتضر بعد، لكن أصبحت تسمى الربيع العربي، ذلك الربيع الذي لم تزهر أشجاره بعد، ولم يقطف ثمارها بعد، إنه الربيع العربي لفتى متقاعد.
 

اليوم نعيش ما يسمى الأنانية الوطنية، أي إيمان الفرد بأن الوطن من حقه دون غيره، ويدعمه أفراد يؤيدون أفكاره رافضين كل الاختلاف والتنوع

يذكرني هذا الربيع الطويل الغارق بالدماء بالكوميديا الإلهية للكاتب الإيطالي دانتي عندما وصف البرزخ -حسب رأيه- بأنه مكان ما بين الجنة والنار، والروح مخنوقة هناك ولا راحة فيها، فهو تائه عند مفترق الطرق وسط غابة مظلمة تغض بالذنوب، ويصف في ملحمته الشعرية عالماً آخر أبدعه في مخيلته.

يتوارى شعور بالإحباط عند سماع نحيب سكان حي كامل انقرض نصف سكانه لأجل عيون طائرة حربية، أو حتى تناثرت جثث بريئة لعصافير الجنة على طول شواطئ سياحية.

الأخبار المحبطة غدت كالأخبار العاجلة في حياتنا مؤلمة ومتسارعة وكثيرة وقد لانفهم بعضها أحياناً، ولأجل هذا وأكثر قرر الوطن أن يتقاعد بعدما صلى على شهدائه، واستغفر لذنوب وخطايا من رحلوا عنه وعاقب بعض من قرر البقاء فيه.

تراجيديا الوطن موجودة منذ القدم، ما الوطن؟ وأي الأوطان وطني؟ هل الوطن هو الوطن الأم أم وطن المولد أم وطن الثقافة أم وطن المدفن؟ أو تلك المدينة التي أحببت العيش فيها قبل أن تختارك أضواء مدينة ساحرة، تناديك من بعيد؟ أو الوطن الذي لاح بوجهه عنك؟ الأوطان كثيرة، والشخصيات أكثر، ولكل شخصية وطنها.

هكذا باتت حال بعض شعوب البلدان العربية، سواء بحروب علنية أو غير علنية، أصبح الرجال يجهشون بالبكاء قبل النساء من هول ما يرون، ولا ناصر لهم من البشر، أكثر موقف استوقفني هو مشهد لا يتعدى دقائق معدودة لأب يودع أبناءه بعدما فارقوا الحياة أمام عينيه، آخر وداع دنيوي، ويكلمهم كأنهم ما زالوا يسمعون، ويصور بنفسه هذا المشهد الأليم.

نعيش اليوم ما يسمى الأنانية الوطنية، ويتمثل ذلك في نظر البعض في أن يؤمن الفرد بأن الوطن من حقه دون غيره، وتدعمه مجموعة من الأفراد الذين يؤيدون أفكاره وفكرته، رافضين كل الاختلاف والتنوع الذي هو في الأساس نتيجة طبيعية وموجودة من مئات وربما آلاف السنين، هذا الوطن الذي وسع جميع أبنائه، حاضنا لهم بآلامهم و أحلامهم، الآن لا يستطيع أن يسع حتى نفسه، بفعل بعض فئاته، واعتقادهم الغريب والبعيد كل البعد عن العقل والمنطق.

اختلاف وتنوع الثقافات هو إرث كان يفخر به الأجداد، وبالرجوع إلى التاريخ نجد أن الشعوب كانت متعايشة إلى حد كبير، خاصة عند فجر الإسلام وميلاد الدولة الإسلامية الأولى، نجد أنها كانت تحتضن كل الأعراق والأديان، وكان عنوان الإسلام المساواة كأسنان المشط، وما زالت المساواة موجودة لكن دون تطبيق يذكر.

الاختلاف قد يكون دينيا أو عرقيا أو طائفيا أو حتى قبليا لأبناء الشعب الواحد، والاختلاف لا يمنع الائتلاف، بل على العكس يثريه، إذا استعمل للخير وليس أداة للشر. أما البعض فقرر أن يبيد هذا الاختلاف بكل ما أوتي من قوة، سواء باسم الدين الذي هو براءة منه، أو باسم أسبقية الهجرة إلى الأرض، متناسيا أنها أرض الله الواسعة.
 

الدول المتقدمة المعاصرة التي تملك الرؤية المستقبلية الثاقبة ترى في اختلاف وتنوع الثقافات الأخرى قوة كامنة لها

كل هذه البدع الاجتماعية ظاهرة معاصرة، ففي تاريخ مقاومة الاستعمار بكل ألوانه، وبجميع أهدافه، اتحد كل المواطنين آنذاك بكل معتقداتهم وأطيافهم، كانوا يدا واحدة في التغلب على المحتل وطرده.

الدول المتقدمة المعاصرة التي تملك الرؤية المستقبلية الثاقبة ترى في اختلاف وتنوع الثقافات الأخرى قوة كامنة للدولة، وهناك وإن صح التعبير نظرية مهمة جدا وهي أن تعدد واختلاف المجتمع مع وجود العدالة الاجتماعية والتعايش السلمي والتسامح، تعمل كل هذه العوامل مجتمعة على إطالة أمد وعمر تلك الدولة أو المملكة أو الإمبراطورية وتطورها.

من المضحك المبكي في كل هذا أن يقتتل الطرفان -مهما كانا- داخل الوطن الواحد، أيا كان موقع هذا الوطن، ويموتون هنا وهناك؛ بالصوت والصورة، ويطلب الجميع ألا يصلى عليهم لأنهم شهداء وجميعهم بالجنة، القاتل والمقتول في الجنة! السؤال هو من سيدخل النار؟ إذا أردت الجواب يجب عليك أن تغادر هذه الدار وتصبح بدار الحق، بعدها عد لإخباري بكابوس صغير من دخل الجنة؟ ومن دخل النار؟

إنها تعويذة لا يستطيع البعض فهمها ولا حتى نعلم متى ستحلحل؟ وقواعد لغة التعويذة غير معروفة أيضاً، ومن سيبقى في النهاية.
 

البقاء هنا ليس للأقوى، ولا حتى للأضعف، ونعود مجدداً إلى البرزخ الذي صوره دانتي، والذي شعر فيه بتفاهة حياته. هذا في نظر دانتي لكن في نظر البعض قد يكون السبب الأهم في تقاعد الفتى وهو في ريعان شبابه خذلان الأقصى المبارك، واتفاق المبذرون والبخلاء على أن يحملوا ذنبه، ويذرفوا له دمعات قد تكون قليلة في حقه، ويخبروه أنه سيأتي جيش من وراء البحار المظلمة، ويقتل جميع الظلمة ونحن ننتظرهم كل ليلة، وندعو كل ليلة أيضاً لك وحدك دون الغير، طبعاً في هذه الرواية بطل القصة غير معروف، والزمن غير معروف، فقط علينا الانتظار دون اختيار، وننتظر وينتظر معنا الفتى الجميل، لغد أجمل، ولخير أكثر، هذا من باب تفاءلوا بالخير تجدوه.

فكن متفائلاً أيها الوطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.