شعار قسم مدونات

أفضل جمعة في حياتي

blog صلاة

"آخر بلاد المسلمين" تعبير كان يقوله أجدادنا للدلالة على الأرض البعيدة، باعتبار أن ديار المسلمين ممتدة شرقا وغربا، والإسلام منتشر بين شعوب وأعراق لا حصر لها، وشعب "الباشقرد" هو أحد هذه الشعوب التي ينطبق عليها وصف "آخر بلاد المسلمين"، ربما لم يسمع الكثير عنه، هو شعب ذو جذور تركية فكلمة "باش" بالتركية تعني الرأس و"قرد" تعني الذئب، ومن المعروف أن الذئب هو رمز الشعوب التركية وبالتالي يكون "الباشقرد" هو شعب رأس الذئب.
 

يعيش شعب الباشقرد في جمهورية باشقردستان أو بشكيريا كما ينطقها الروس وهي تقع في الجهة الغربية من جبال الأورال التي تفصل آسيا عن أوروبا، وجمهورية بشكيريا هي إحدى جمهوريات الحكم الذاتي التي يتكون منها الاتحاد الروسي وعاصمتها "أوفا" التي كانت مقر الإدارة الدينية لمسلمي روسيا زمن الاتحاد السوفيتي. 
 

دفعتهم عاطفتهم الإسلامية لأن يتجمعوا كل يوم جمعة في كوخ صغير في وسط القرية أعدوه لكي يكون مصلى

والباشقرد شعب مقاتل بالفطرة وصفهم الرحالة المسلم ابن فضلان في رسالته قائلا: "ووقفنا في بلد قوم من الأتراك يقال لهم "الباشغرد" فحذرناهم، وذلك أنهم شر الأتراك وأقذرهم وأشدهم إقداما على القتل". كان هذا بالطبع قبل أن يدخل هذا الشعب في الإسلام ويحسن إسلامه ويكون منهم الدعاة والصالحون الذين ساهموا في نشر الإسلام في وسط روسيا حتى سيبيريا، واشتهر منهم زعيمهم القومي "صلوات يولايف" الذي كان له دوره في مقاومة الظلم والاستبداد في زمن القياصرة.

في تلك البلاد تقع قرية نائية صغيرة على ضفاف نهر اسمه حاجات أو خازات كما ينطقونها باللغة المحلية التي تحتوي كلمات عربية وكانت تكتب بالحروف العربية قبل أن يتم فرض الحروف الكيريلية المستخدمة في اللغة الروسية.
 

قرية خازاتوفا أو إن شئت تعريبها فاسمها الحاجية نسبة للنهر الذي يمر بها، وهي قرية نائية مهملة ضعيفة الخدمات، لا تكاد تصل إليها إشارة الهاتف ولا تكاد تراها على الخريطة، سكانها مسلمون أبا عن جد، يحبون الإسلام رغم جهلهم به، دفعتهم عاطفتهم الإسلامية لأن يتجمعوا كل يوم جمعة في كوخ صغير في وسط القرية أعدوه لكي يكون مصلى، زرتهم في الصيف الماضي فأحسنوا استقبال ذلك العربي الذي زارهم، وحرصت نساء وفتيات القرية على وضع "إشارب" على رؤوسهن أثناء فترة زيارتي، إذ من غير اللائق أن يبدين شعورهن أمام الضيف العربي، أما التنورة القصيرة فلا بأس بها! 
 

قارنت تلك اللحظة بالمئات من صلوات الجمع التي حضرتها وبالخطب التي إن سئلت بعد الصلاة عنها لما تذكرت موضوعها

حرصوا على أن أحضر معهم صلاة الجمعة في مسجدهم، وتفاجأت بأنهم لا يعرفون الصلاة وكل ما يعرفونه هو أن هناك صلاة في الإسلام اسمها صلاة الجمعة وأن عليهم أن يتجمعوا في المسجد لأدائها، فكانوا يتجمعون رجالا ونساء مع بعض ويجلسون في حلقة ثم يقرؤون ما يحفظونه أو يتناولون كتيبات فيها بعض السور والأذكار، فأكثرهم علما من يحفظ الفاتحة ومنهم من يحفظ بضع آيات من سورة ياسين (وذلك لأنهم يقرؤونها على الموتى)، ومنهم من يتلو بعض الأذكار مثل سبحان الله والحمد لله ومنهم من يدعو الله بلغته، ومنهم من يبقى صامتا، لكن المهم في الأمر أنهم يفعلون ذلك والدموع تنهمر من عيونهم. 

تأملتهم وتفكرت في هذه الدموع المنهمرة وتلك القلوب المنكسرة وفي عاطفتها وفي خشوعها، وقارنت تلك اللحظة بالمئات من صلوات الجمع التي حضرتها وبالخطب التي إن سئلت بعد الصلاة عنها لما تذكرت موضوعها، وتذكرت وأنا أغالب دموعي قول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "إن الله ربى محمدا صلى الله عليه وسلم ليربي به العرب، وربى العرب بمحمد ليربي بهم الناس أجمعين، وأنا واثق بأنه يوم القيامة سيخرج أقوام من النار ليدخل مكانهم العرب لتقصيرهم في أداء رسالتهم". 
بقيت عندهم أياما وعزمت أن أعود إليهم في هذه السنة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.