شعار قسم مدونات

الحياة لم تترك لنا مجالا.. دعونا نرقص

blogs-رقص

بالحديث عن التجارب الجديدة التي يمكن لها أن تخفف عن الإنسان ضغوط الحياة، جربتُ الكثير من الأشياء، كل فصل دراسي جديد اعتدتُ أن ألتحق بدورةٍ ما وأجرب شيئاً جديداً.
 

التحقت بدورة كاراتيه في فصلٍ دراسي سابق، وقد خفف ذلك من توتري وانفعالاتي كثيراً، أنهيت دورة الكاراتيه وحصلت على الحزام الأصفر ولم يحصل لي الفرصة لأتابع للمستوى التالي، لكنني أصبحت الآن -في أقل قليل- أُجيد صد الضربات جيداً عندما أخوض جولة قتال عبثية للمرح مع أخي الذي يجيد الكونغ فو!
 

إن لم يكن الأشخاص بذلك الذكاء الذي يؤهلهم ليتفهموا حالتك المزاجية المعكرة، فالأفضل هو أن تتجنبهم قدر الإمكان.

كنت قد بدأت أتدرب تنس الطاولة في الجامعة قبل الالتحاق بالكاراتيه، تدربت كلما سنح لي الوقت أو كلما كان لدي فراغ جامعي، ومعظم الوقت تدربت وحدي دون شريكة لعب، كنتُ أُرسلُ الكرة للجهة المقابلة وأعود لأقف بشكل معاكس وأرسل من الجهة الأخرى للجهة التي كنت أقف فيها تواً، ربما كان الأمر منهكاً ومتعباً ومملاً في ذات الوقت، ورغم ذلك كنت أفعلها لساعة كاملة أحياناً حتى أُصبتُ بتقلصات عضلية نتيجة الانحناء المستمر لتناول الكرة والعودة لضربها وهكذا، لكن بغض النظر، ساعدتني كرة تنس الطاولة على الهروب أيضاً من ضجيج الضغوط والأفكار الصارخة التي تكاد تفجر رأسي، وساعدتني أيضاً في تلك الفترة على تجنب الناس الذين لا يفعلون شيئاً سوى زيادة تعكير مزاج هو معكر بالأساس.
 

هذه نقطة مهمة جداً، إن لم يكن الأشخاص بذلك الذكاء الذي يؤهلهم ليتفهموا حالتك المزاجية المعكرة، فالأفضل هو أن تتجنبهم قدر الإمكان. استطعت إجادة قواعد اللعبة الأساسية من إرسال وصد وسارت الأمور بشكلٍ بطيء جداً حتى بدأ يطرأ تحسن طفيف على مستوى التعامل مع الإرسال القوي والسريع. الجميل في الأمر لم أعد أغلق عيناي عندما تتجه الكرة مسرعة نحوي، وصرت أواجه الأمر وأتعامل معه.
 

في وقتٍ لاحق سئمتُ من كرة الطاولة، ولا أظن أنني برعتُ فيها كثيراً لأنني كنت ألعب وحدي معظم الوقت، ورحت أبحث عن شيء جديد يمكنه أن يمتص غضبي وتشتتي وعدم قدرتي على التأقلم مع هذا العالم الخارجي، وعلى وجه الخصوص الجامعة و الزميلات، لم أستطع في تلك الفترة أن أتأقلم مع أي مجموعة، كنت أشعر بغربة قاتلة غريبة.

جاء الصيف، وقررت أن ألتحق بدورة لتعلم السباحة، كانت تلك تجربة فريدة من نوعها! تحد حقيقي لي، لن أدخل في تفاصيلٍ كثيرة، لكن هذه التجربة على وجه التحديد غيرت نظرتي لكثير من الأشياء، تجربة الغرق تجربة قاسية حقيقةً، وبشعة جداً، انتهى الأمر بي بتعلم أساسيات السباحة وتمكني من التعامل مع المياه ذات عمق مترين فقط، أكثر من ذلك سأستمر في الغرق وستستمر المدربة بالقفز في الماء لانتشالي من القاع. السباحة على وجه التحديد أثرت في نفسيتي بشكل غريب! وتذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل" وقررت أن هذا التخصيص له مدلولاته البعيدة والعميقة.
 

على أية حال، أردت أن أجرب شيئاً جديداً مرة أخرى، أي شيء له القدرة على إعطائي مساحة لأتخلص من طاقتي السلبية، داومت على الذهاب يومين في الأسبوع للصالة الرياضية، بدا الأمر روتينيا ومملاً مجدداً، وأردت أن أجعل من التمارين الرياضية شيئاً مسلياً أكثر، دخلت إلى غوغل وبدأت بالبحث على يوتيوب حتى انتهي بي الأمر بتعلم رقص الزومبا بجهدٍ شخصيٍ مني ثم تبعها اشتراكٌ في النادي الرياضي في جامعتي، حيث كنا نرقصها معاً في مجموعات مع الموسيقى، وهي حركاتٌ رياضية بالمقام الأول. حسناً، هذه تجربة جديدة جداً وكانت ممتعة حقاً وكانت في مجموعات من خمسة عشر إلى عشرين أحياناً.
 

لاحقاً، جاءت تدخلات ماما بأنه لابد لي من أن أتعلم الرقص التقليدي! وتعلمته أيضاً بإصرار منها معتقدةً أن الفتاة التي لا تجيد الرقص يوم زفافها ستكون أضحوكة النساء! إيييه! أمي سيدةٌ يافاويةٌ أصيلة، تزوجت مبكراً في عمر غض، ولذا فأعمارنا متقاربة رقماً وروحاً وهي صديقتي المُقربة جداً أيضاً، على العموم، تنتصر هي دائماً وكان لها ما أرادت، تعلمتهُ منها بعد جُهدٍ مُتفرِق ولحظاتٍ مليئة بالضحك والجنون، وبتكرار هذه التجربة خرجتُ باستنتاجاتٍ قررتُ فيها أن الرقص بجنون وبدون إيقاعٍ بعينه ومع موسيقى تضجُ بالحياة إحدى تلك الغرائب التي تساعد المرء على الانفصال عن عالمه الحقيقي والتوحد مع عوالم أخرى.
 

ببساطة، الرقص ميكانيزم دفاعي داخلي آخر، إنها صرخاتٌ داخلية خرساء تدفعها الموسيقى للتحرر عبر أجسادنا، وقررت أنه ميكانيزم دفاعي مهم جداً لي للمضي قُدماً في حياةٍ مُزدحمة بالهجوم.
 

الحياة صعبة، صعبة جداً، إنها غابةٌ حقيقية، ونحنُ فيها لم نرث لا مخلباً ولا ناباً، وإنما ورثنا قلوبنا الطفولية وأرواحنا الدرويشة، لذلك لم تترك لنا الحياة مجالاً آخر.

أتذكر في فيلم PK عندما كانت صديقته منزعجة وحزينة بسبب ضغوط العمل ومشاكلها الشخصية، في تلك اللحظة اقترح عليها الفضائي بي كي أن تأتي معه وتقلده في الحركات التي سيقوم بها، وأخذت تقلده حتى صارت ترقص بشكل حُر وجنوني، ثم توقف هو مندهشاً عندما لاحظ كيف اندمجت وتوحدت مع جسدها كأنها في عالمٍ آخر، وقد اختفت ملامح الحزن كلياً وتبدلت بابتسامات فرح وراحة.

نسيت تماماً كل شيء، بعد أن كانت مُستاءةً جداً ومتضايقة. والفكرة حقيقةً تكمُن في أننا في مثل لحظاتٍ كهذه نحرر أجسادنا على سجيتها، وتنطلق من أعماقنا كل الأشباح والخفافيش التي تمثل السد الأسود في وجه إقبالنا على الحياة وتحديها ومعايشتها.
 

، وقررت أنه بغض النظر عن تعدد الطرق والأساليب التي يمكن لك أن تجربها هرباً من ضغوطات الحياة، سواء كان ذلك كاراتيه أو سباحة أو جري أو أي نشاط ما تعتقد بأنه سيخفف عنك، قررت بأنه: دعونا نرقص.
 

حسناً، حسناً، تظنون أن إيمان قد أُصيبت بالجنون هذه المرة فعلياً! ليكن، جربت الكثير من الأشياء لأختفي في اللحظات التي تكون ثقيلة على القلب، والرقص يفعل. سأترك لكم اقتباسا من فيلم جميل جداً شاهدته ذات مرة، يتحدث عن فتى يحب أن يطلق العنان لجسده ليتحرر، اسمه بيلي إليوت، شاهدوه، حظاً موفقاً.
 

– بماذا تشعر وأنت ترقص؟
– لست متأكدًا، من جهة الشعور رائع، ومن جهة أخرى يبدو الأمر صعبًا، لكن حينما أُطلق العنان لجسدي أنسى كل شيء، ومن جهة أخرى أختفي، وأشعر بتغيير في كامل جسدي، إنه تمامًا كأن نيرانا تشتعل في جسدي، ثم هأنا ذا، أُحلق كطائر، كالكهرباء! نعم كالكهرباء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.