شعار قسم مدونات

غياب الضمير

blog-اليابان

كنت اسأل نفسي على الدوام: ما هي المشكلة الأزلية في توصيف احتياجات مجتمعاتنا العربية، وما الخلل الذي يجعلها غير قادرة على الانطلاق ومن ثم إحداث تلك الفروق التي تتغنى بها الأمم المختلفة؟ ولكنني عندما رأيت الصراعات التي لا تحدث إلا في محيطنا المكشوف وقبلها الثوابت التي جُبلت عليها اتضحت المسألة تماماً.

إنها أزمة إرث قديم ابتليت به هذه المجتمعات ومكامن للخطأ لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها والتنقيب عنها حتى يتسنى لنا تصحيحها أو تفاديها في أقل الأحوال.

اتخاذ القرارات المصيرية يجب أن يتم بدون ارتجال غير محسوب وهو ما فطنت له الشعوب المتقدمة منذ سنوات بغية التغيير وتسليم الراية للأجيال القادمة دون ندم أو شعور بالذنب

إنه التاريخ المدوّن الذي جعله البعض بوصلة لأي اتجاه يزعمه ومسلك يطيب لمدمنيه أن يسلكوه بلا حساب، بل وضعوه كالحجر العاثر أمام أي طريق إصلاحي أو تنويري وخصوصاً عند امتهان فن المقارنات، ولذلك أصبح أي خروج عن النص نازلة وطّامة كبرى تستدعي إلغاء الطرف المقابل.

العقول هي من تصنع التاريخ عندما تتحرر من التزامات الماضي وتبدأ في التعمق، ولكن بدون مهازل التجديف.
 

المجتمعات الناشئة، وهي بوصفنا هذا هي المجتمعات التي استثمرت في العقل البشري ولم تمارس حكوماتها أدوارا براغماتية مع الأفراد بل هيأت لهم حق تقرير المصير في التفكير بدون أي مؤثرات أو تسلط النخب الطفيلية وفتحت أبواب الإبداع للكّل حتى ينطلق منها الجميع وبدعم لا محدود يتمثل في توفير أدوات إبداعية (في مجتمعاتنا ينظر لها بأنها من المحرّمات ) وخلق بيئة محمودة للعمل. كيف وصلوا لهذا؟
 

إنها قضية الوجود والمستقبل والخيارات التي من الممكن أن تخدم البشرية، يساعدهم بهذا ثروات طبيعية موجودة حولنا تنبهوا لها وقد أحسنوا بذلك للعالم وإن استغلوا قلة الحيلة للضعفاء فالركب لا ينتظر من لا يريد اللحاق به، والقرارات المصيرية يجب أن يتخذها أحدهم دون ارتجال غير محسوب، وهو ما فطنوا له منذ سنوات بغية التغيير وتسليم الراية للأجيال القادمة دون ندم وشعور بالذنب.

اهتموا بالمعادلة الواضحة: صحة، تعليم، بنى تحتية، اقتصاد.. وبعدها تم رسم الخطوط العريضة الملائمة والملامح الدقيقة ولم يجعلوا للتنظير والتسويف مكاناً يعشعش فيه ولم تسيطرعليهم أوهام الفوقية أو مفاصل الماضي، بل بكل بساطة جعلوه قراءات ذات فائدة مع الأخذ بالعبر دون التحّيز واتخاذ المواقف الصمّاء.

أطر التعايش كانت هي الفيصل وأساس نجاح مشروع بناء مجتمع متمدن ذو سياسات صنعت المعايير الاخلاقية والاجتماعية بلا مواربة والشعارهو الارض للجميع والفائدة أيضاً للجميع.

نعم هناك بعض الإشكالات والجوانب الخفّية لكل مجتمع صاعد لكن لننظر للإيجابيات ونهمل ماقد يطرأ من عيوب بلاقصد ، المخرجات هي من تحدد لغة التقييم والإنتاجية هي من تجعل للفكرة قيمة وإلا تكون العملية خداع وتنطيط ومضيعة للوقت كما يروّج له إعلامنا فالتغني برفاهية وقتية زائلة دونما إحداث ثورة بالفكر وتناغمه مع غيره ليس له قيمة إعتبارية تذكر.

شعلة العلم انطفأت، وحاملها الضمير لم يعد له وجود، فسقطنا سقوطا مدويا بلا رجعة، وبهذا ماتت التطلعات وغاب الطموح وتبدّلت الأولويات

كيف نجح غيرنا؟الاجابة هي لم يهملوا شيء ولم يتركوا للتخمين مجال ..العنصر البشري عند تأهيله وجدوا أنه نواة لكل النجاحات وأدرك هذا العنصر بأن له أدوار لاتقل عن غيره وقيمته الاجتماعية فوق أي إعتبار وبعدها كان لميزان العدل والمساواة كلمته الفاصلة في تقرير المصير ورسم معالم هذا التحضّر.

الهندسة الاجتماعية لها دور كبير في إدارة دفّة المجتمع وفق مرئيات متحررة من الفردية محققة رفاهية كبيرة تنمو مع نمو إحتياجات المجتمع ولذلك كان هناك إهتمام بالغ في الاحصائيات والمعلومات لكل جزئية ولكل شخص لأنه هو محور التطور والمنطلق الثابت لأي ديمومة تنموية .

ناهيك عن الإبتكار تحت أي ظرف وبما أن الأصل هو المجتمع وأفراده ومايحدث ينعكس على عليهم جميعاً كما أنه ينعكس على تلطعاتهم كان لعملية إتخاذ القرارات و إلاطلاع بالمسؤوليات وتوزيع المهام مفتاح نجاح واحد وهو المشاركة الجماعية تحت مسّمى دولة المؤسسات بعد إستيفاء البني التحتية اللازمة ورسم المنظومة المتكاملة.

لنعد لواقعنا المّر ومن جعل مرارته في حلوقنا ، هل هي الخيبة والانحطاط الفكري الذي نعيشه هو السبب ، أم متصدري المنابر مدّعي النبل في الاخلاق والعطاء في المحن هم السبب.

شعلة العلم انطفأت وحاملها الضمير لم يعد له وجود فسقطنا سقوطا مدويا بلا رجعة وبهذا ماتت التطلعات وغاب الطموح وتبدّلت الاولويات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.