شعار قسم مدونات

دوغمائية التطبيع

blog تطبيع

قبل عامين دعاني صديق إلى المشاركة في حفل أقامته الجالية العربية لذكرى النكبة في أحد فنادق دبلن الفاخرة، الأمر الذي قابلته بالرفض رغم وجود الفرصة، ففي اعتقادي أن النكبة نكبة على اسمها فلا داعي لأن "نحتفل" ونلثغ الأشعار والخطابات ثم بعد ذلك نقوم إلى عشاء فاخر لتمتلئ بطوننا.

كانت القضية الفلسطينية قضيتنا المركزية والأولى والتي بحلها سيكون هناك انفراج كبير في الشرق الأوسط، لكن يبدو أن الأولويات تغيرت فالقضية السورية اليوم تربعت على رأس القائمة، وأصبح احتلال فلسطين شبه منسي، خصوصا في تيار هذه الأزمات المتراهصة التي لا تريد أن تنتهي فكل أزمة تظهر تنسينا التي قبلها.

 

تراودني قناعة بأن التطبيع أصبح شيئا دوغمائيا لا يقبل الطرح أو إعادة النظر، فمجرد إلصاقه بالشخص يصبح عارا، مبتعدين كثيرا عن مدلولاته وواقعه

مضى الوقت الكثير من أعمارنا ونحن نهتف في الشعوب "وين الملايين؟!" ونصرخ في المعتصم "الحاكم العربي!!!" لكن يبدو أننا أصبحنا نعيش عزلة عن فلسطين وتغييبا كاملا عن الأقصى والأرض المقدسة سواء إعلاميا أو حتى حسيا، ففلسطين حنين بالنسبة لنا وفوق ذلك هي أرض مقدسة وارتباطنا بها لا يقل عن ارتباط أهلها.

تراودني قناعة بأن التطبيع أصبح شيئا دوغمائيا لا يقبل الطرح أو إعادة النظر، فمجرد إلصاقه بالشخص يصبح عارا، مبتعدين كثيرا عن مدلولاته وواقعه، تتبعت تعريفات الكثير من المفكرين والمثقفين للتطبيع واكتشفت أنه لا يخرج عن حالة عامة عريضة حتى أصبح المصطلح متشابها في استعمالاته، وحاجبا للمعنى بدلا من أن يكون أداة دقيقة للتعبير عنه.

 

وعلى الرغم من تتبعي لكثير من التعريفات فإن مصطلح التطبيع كان وليد الصراع العربي الصهيوني، ومجمل التعريفات تقصد به تحويل آليات الصراع إلى آليات للسلام والتقارب المسيري، وعلى سبيل المثال عرفه بشكل عام بأنه "تغيير ظاهرة ما بحيث تتفق في بنيتها وشكلها واتجاهها مع ما يعده البعض طبيعيا" ثم شرع في تفصيله إلى تطبيع سياسي واقتصادي ومعرفي.

لا أريد هنا أن أدخل في متاهات لغوية للمعنى وإنما أريد أن نعيد النظر في الصراع الفلسطيني الصهيوني بشكل عام، وأن ننظر لزاوية أخرى بعيدا عن اتهامات التطبيع لكل ما هو متصل بهذه القضية، هذه النظرة ليست جديدة وإنما أزعم أننا في حاجة ماسة لها اليوم اكثر من قبل، حيث أصبح التطبيع واقعا نعيشه إما بوفود دبلوماسية أو عقود تجارية وبشكل مكشوف أو من تحت الطاولة، لذلك بعد هذه السنوات من الفشل العربي وحتى الفلسطيني للأسف في حل هذه الأزمة، وبعد سقوط جماعة الممانعة التي ما زالت تبحث عن طريق القدس في الشام واليمن فإنه يجدر بنا أن نقيم هذا الصراع ونعيد موقفنا منه.

وهنا لن آتي بجديد وإنما سأعرض وجهة نظر الراحل إدوارد سعيد مع هذا الصراع والتي أعتبرها نظرة ناضجة وواعية خصوصا لهذه المرحلة التي نمر بها الآن.

التطبيع أصبح حالة عامة أخذتنا لأبعد الحدود، فعلى سبيل المثال أصبحنا نغلب الهوية الإسرائيلية على الهوية الفلسطينية لعرب ٤٨

ينظر دائما إدوارد سعيد إلى الصراع العربي الصهيوني بنظرتين، الأولى: نظرة أخلاقية بحيث إنه يجدر به أن يكون صراعا أخلاقيا قبل كل شيء، فهو بذلك يصرفنا عن النظر لتجربة فيتنام أو كوبا بل يحثنا على الاقتداء بتجربة جنوب أفريقيا، وذلك من خلال خطوات واضحة، أهمها عزل الاحتلال وفضحه من خلال حركة شعبية واسعة في العالم كتلك التي قام بها نلسون ورفاقه، وكذلك عبر مقاطعة إسرائيل وفضحها الأخلاقي في كل المحافل الدولية.

والنظرة الثانية: نظرة ناقدة للوضع الحالي سواء في الداخل الفلسطيني أو في الحالة العربية بشكل عام، فنعلم جيدا واقع الفساد الداخلي في بعض الفصائل الفلسطينية، ونعلم كذلك خلافات المصالح التي همشت القضية والهدف الأساسي للنضال، أما الحالة العربية فكلنا نعلم جيدا بوجود تبادل زيارات سرية أو علنية وكذلك بوجود مكاتب دبلوماسية تحت مسمى شركات بين الكيان الصهيوني والحكومات العربية التي أصبحت الأخيرة تخدرنا بكلمات الشجب والإدانة لممارسات الكيان الصهيوني في كل قمة عربية بينما تسعى على قدم وساق للتقارب معه.

قبل عام ذهب الأمين العام المنتخب لمنظمة التعاون الإسلامي إياد مدني في زيارة للقدس وتحت رعاية السلطة الوطنية الفلسطينية، وقال "لا بد أن نسعى لأن يأتي المسلمون إلى القدس بعشرات الألوف، نريد إيجاد صيغة لوكالات السياحة الفلسطينية والأردنية لنهيئ الفرصة للمسلمين الراغبين في زيارة القدس وفلسطين". وقتها كانت تهمة التطبيع معلبة وجاهزة للتوزيع.

التطبيع أصبح حالة عامة أخذتنا لأبعد الحدود، فعلى سبيل المثال أصبحنا نغلب الهوية الاسرائيلية على الهوية الفلسطينية على عرب ٤٨، وكذلك أصبحت العلاقات مع اليهود المؤيدين لحقوق الفلسطينيين -سواء في فلسطين أو خارجها- تدخل في تهمة التطبيع عند البعض، ما أقوله هو ما قاله إدوارد سعيد "ليس هناك أي تبرير منطقي لاتخاذ الجهل سياسة أو استعماله سلاحا في الصراع".

 

الأفضل والأذكى من لعن إسرائيل هو التعاون مع القطاعات فيها التي تدافع عن الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، وتعارض سياسة الاستيطان، وتخاطر باتخاذ موقف ضد الاحتلال العسكري، وتؤمن بالتعايش والمساواة، لذلك لا تبعدونا كثيرا عن فلسطين الأرض وفلسطين الإنسان بحجة التطبيع وابحثوا عن طريق مشروع بين نفاق الحكومات لنتمكن من الوصول لفلسطين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.