شعار قسم مدونات

عبثية حرب تتفسخ على ضفاف ما تبقى من سوريا

blogs سوريا1

في هلوسة الانتظار أرصد بعض خردوات القذائف على إحدى التلال المنهكة، أنقل نظري بين جعبة ممزقة ورصاصة صدئة، أحدث بعض الحشرات التي تتكئ على بقايا صاروخ منفجر منذ عام أو أكثر، وأتأمل عبثية الأشياء التي خلفتها الحرب في وطني.

تحكي أشجار الصنوبر والكرز والرمان حكايات، وما بين تقارب أشجار الزيتون تخلق قصص، منها ما يحكي رواية عن شهيد أو معتقل أو لاجئ في مكان بعيد أو حتى نازح في مكان قريب، أراها مشدوهة من هول ما رأت، يكاد الصلع يصيبها بعد جرعات الكيماوي وهمجية التتر الذين مروا عليها، قالت لي أنها اعتقلت في مكانها بسياج الرصاص واستنشقت سموماً لا تعرف ما اسمها، واختلط مع عبقها رائحة البارود وتفسخ الجثث، لم يكن حينها بإمكاني أن أخبرها شيء سوى أني أبكي معها.

هكذا تحولت الثورة الى حرب خاضت ستة أعوام من طفولتها، ارتوت من ثدي الغدر والمؤامرات واللاإنسانية الدولية، الثورة التي وصمت ب"اليتيمة" نالت ما يكفي من الطعنات، كشرنقة تحاول الخروج من جلدها وتتحول الى فراشة، تلك الثورة تحاول الفرار من سم كوبرا الدول التي تلاهثت عليها لكنها لم تفلح حتى الآن.
 

كل عبثية الحرب تقطن في كفة وجوع الأطفال في كفة، فعند هذا العجز تشعر باستسلام كواكب الدنيا لحرقة الشمس، هذا الحرمان وهذه القسوة التي ولدت الأحقاد بين أبناء سوريا

أتساءل ماذا بإمكان صمود الشجر أن يقدم أو يؤخر في حرب ضروس؟ وماذا بإمكان هيجان بحر أن يفعل لوقف معارك شعثاء حتى البروج؟ وهل لبراميل نفط أن تمانع أن تكون سبيلا لإشعال فتيل التطرف وعبودية الأموال وتمجيد أشخاص كالعجول؟ هل دموعنا طريق لإطلاق سراح المعتقلين من السجون؟ وهل لضحكاتنا المبتذلة تأثير لدغدغة مشاعر العالم معنا ضد إجرام العبيد بالأحرار وجعلهم يسارعون لتنفيذ الوعود؟

 

كل عبثية الحرب تقطن في كفة وجوع الأطفال في كفة، فعند هذا العجز تشعر باستسلام كواكب الدنيا لحرقة الشمس، هذا الحرمان وهذه القسوة التي ولدت الأحقاد بين أبناء سوريا، فحين يفكر طرفان أن كلاهما إنسان و أن أحدهما يعيش على عاتق حرمان الآخر من رغيف الخبز تزيد نقمة الأحقاد تلك، هذا ما سعى له ذاك النظام السوري بأفكاره الشعثاء وأهدافه الملقحة بالضغينة، وهذا ما ولدته الحرب، إنها سموم تنفخ في عقول كل سوري، لا بل تنفث حتى في طعام الشعب.

ينتابني إحساس بين تلك الخردوات تساؤل آخر، وربما كان هذا التساؤل هو الأكثر فطرية في عهد الفجور الإنساني الذي مارس بغاؤه على جثث الأرامل واليتامى والأطفا، كيف اخترقت رمال الكره أدمغتنا يا ترى؟ 

يجيبني صدى غامض من بعيد : "لقد تصحرت نفوس أولئك الذئاب فلم يعد يهزهم دمع أو توسل امرأة عزول، لقد باتوا يلهثون كالكلاب العطشى لإذلال إنسانية الأحرار، وبات أسيادهم ينعقون لجمع اليورو و الدولار في حساباتهم بسويسرا وأوروبا، لتزيد خزائنهم و تفيض مواردهم من فيض دم تخثر على أوراق الشجر و في وسط السماء وعند الغروب و عند السحر، وأصبحت أرصدتهم بحجم استكلابهم و نهشهم أجساد شهداء عراة لم ينحنوا ذات يوم.

تمنيت حينها لو ني انتميت لمجزرة أو قدمت روحي قرباناً لنحيب أمٍ أو قهر ثائر، تمنيت لو كنت معولاً أحفر خنادق الثوار أو كنت أغلالاً تكبل الحقد الممنهج في نفوس الغاصبين، أو أنشودة تحفر النصر في جدران الكبرياء لتصرخ باسم سوريا الوطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.