شعار قسم مدونات

حكايتي والثورة

blogs-tunisia

هل يسقط يوما ما؟.. تساءلت بينما كنت أرفع عيناي محاولا إدراك نهاية هذا البناء الشاهق الذي شاء له النظام أن يرتفع عنوانا لجبروته وشاهدا على تمكنه من الوطن.
 

هل يسقط يوما هذا البناء؟ هل يُسوّى بالأرض وتؤدبهُ على تَطَاوُلِهِ السّماءْ؟

استدار أنور بالسيارة إلى شارع فرعي، تبددت أفكاري اليائسة وحجبت عني مباني العاصمة المتهالكة المنتشرة على طول شارع باريس، المبنى الأطول في العاصمة، مبنى التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم في تونس قبل الثورة.
 

توقف أنور أمام مكتبه ونزل ونزلت من السيارة وسألني سؤالا سطّر التزامي التنظيمي لأربع سنوات متتالية: والآن.. هل ستواصل النّشاط في اتحاد الطلبة أم ستبقى فقط في الحزب؟
 

انضممت سنة 2007 إلى الحزب الديمقراطي التقدّمي، كنت منبهرا بانخراط الحزب الكلي في تحالف 18 أكتوبر/تشرين الأول الّذي جمع مشارب أيدولوجية تونسية مختلفة حد التناقض يحدوهم حلم مشترك بتونس الديمقراطية.

محطة تحالف 18 أكتوبر/تشرين الأول كانت لحظة عاطفية بامتياز وككل اللحظات العاطفية كانت صادقة جدا ونقية إلى الحد الّذي أسقط عنها كُثرا ممن كانوا يصنفون كديمقراطيين. بعضهم كان يخاف بطش النظام وبعضهم الآخر لم يكن يحمل من الديمقراطية إلا الصفة.

كنت آنذاك في التاسعة عشرة وكنت مشبعا بالعواطف والحماس والأحلام وشديد التعلّق بفكرة التغيير وعندما قررت الانضمام إلى الديمقراطي التقدّمي غداة إضراب الجوع الّذي خاضه قياديا الحزب مية الجريبي وأحمد نجيب الشابي دفاعا عن مقر الحزب المركزي نهاية سنة 2007. لم أُخطأ العنوان ولا الخيار، على الأقل هذا ما تبيّن لي فيما بعد.

بعد أشهر من انضمامي للحزب الديمقراطي التقدّمي انضممت للاتحاد العام لطلبة تونس، وبعدها بشهر واحد كادت وشاية رخيصة من أحد طلبة الحزب الحاكم على خلفية اعتزام الاتحاد القيام بتحرك احتجاجي أن تكلفني الطرد من الجامعة.
 

بقدر ما كانت الآمال التي اصطحبتها موجة الثورات الأولى عريضة وحالمة جاءت الانكسارات والخيبات التي رافقت أخبار الانقلابات والتسويات مرة وموجعة

الإجابة على سؤال صديقي أنور كانت إنهاء علاقتي التنظيمية بالاتحاد العام لطلبة تونس شهرا واحدا بعد الانضمام إليه، ربما لم أكن مؤطرًا بشكل كاف أو ربما كنت مندفعا أكثر مما ينبغي أو ربما فَعَلَتْ الهرسلةُ التي تعرّضتُ لها وأنا قاب قوسين أو أدْنى من أن أُطرد من الجامعة فِعْلَهَا أو ربما كنتُ لا أزال بَعْدُ طريّ العظم في عالم "النضال السياسي" أو ربما كانت كل هذه الأمور مجتمعة.
 

في نهاية الأمر تمسكت بالتزامي الحزبي رغم ما كلفني ذلك من كدمات ومن خيبات بعضها داخل الحزب وبعضها الأخر خارجه وحتى يشتدّ عودي أنا من كان يهيئ نفسه لمعركة طويلة مع النّظام وجدت أن تلك الكدمات والخيبات كانت شرا لا بد منه.
 

الشّعب و الأقدار شاءا أن لا تكون هذه المعركة طويلة أو هكذا خيل إلي في تلك الفترة على الأقل…خرج التونسيون ثائرين في شتاء 2011 و فرّ رأس النظام هاربا الى منفاه في السّعودية و كذلك فعل عدد من أعوانه و من افراد عائلته بينما توارى آخرون عن الأنظار و اعتقل البعض الآخر لم تبارح الجماهير الشوارع أشهرا طويلة و دفعت من خلال المظاهرات و الاعتصامات باتجاه الخيارات التي مثلت في ذلك الوقت اللبنة الأساسية الأولى في البناء الوطني الجديد.

 

كنت أرقب المشهد على كثرة تفاصيله و تشعّبها بغبطة كبيرة و لم تكن عيناي تغفل عن متابعة المشاهد المماثلة في مصر و ليبيا و سوريا و اليمن…شهدت تلكم الأشهر تحقّق أحلام وردية كثيرة و تبلور أخرى أجمل و أبهى.
 

كنت في ذات الآن متظاهرا مندفعا في شارع الحبيب بورقيبة و معتصما صابرا في ميدان التحرير و ثائرا صامدا في شوارع حمص و مرابطا عنيدا في ساحة التغيير و مقاتلا جسورا على أطراف بنغازي…نعم كنت كذلك…كنت كلّ ذلك…كل ذلك و أكثر.
 

بقدر ما كانت الآمال التي اصطحبتها موجة الثورات الأولى عريضة و حالمة جاءت الانكسارات و الخيبات التي رافقت أخبار الانقلابات و التسويات مرة و موجعة كما كانت علامات النكوص و التراجع و الانقسام تكاد تفتك بما تبقى لدي من آمال التغيير.
 

ما زال بإمكاننا تغيير المعادلة وفرض خياراتنا ومشاريعنا مهما كانت غير مألوفة ومهما كانت حالمة ومُنطلقة

أدركت حينئذ أن الصراع مع الظلم و الاستبداد و الفساد متمثلا في كثير من الأنظمة العربية التي حالت و تحول دون نيل شعوبها الكرامة و الانعتاق لم ينتهي بعد. كما أدركت أن السنوات التي تلت اندلاع الثورات ليست إلا مرحلة جديدة من المعركة…نفس تلك المعركة التي بدأتها في 2007 و التي خيل إلي أنها انتهت أبانت عن فصول جديدة تمتد جذورها إلى ما سبقتني إليه أجيال متعاقبة قدمت أزهار شبابها و و أرواحها على سبيلها و على سبيل حريّة لازلنا في أصقاع العالم العربي المختلفة نبذل من أجلها كل غالٍ و نفيس و نقدّم من أجلها التضحيات و نعتبرها اللبنة الأولى في أي بناء ينشُد النّهضة

هل أخطأنا إذ كنا حالمين؟…لا أعتقد أننا كنا مخطئين فزخم الثورات في عامها الأول كان هادرا وعظيما… لنقل إننا لم نحسن التعامل معه… ربما لم نتهيأ له كما ينبغي ربما لم نُعِدَّ الأرضية الفكرية والثورية الضرورية لاحتضانه وتطويعه.
 

ربما كنا سذّجا عندما كان النظام العربي القديم يترصّد الفرصة للعودة من جديد إلا أننا بعدما شهدناه و نشهده من حال الثورات لم نعد كذلك و بما أن التحولات التاريخية الكبرى جولات كثيرة أرى أنه لازال بإمكاننا تغيير المعادلة و فرض خياراتنا و مشاريعنا مهما كانت غير مألوفة و مهما كانت حالمة ومُنطلقة.
 

ما الذي حدث مع المبنى الشّاهق الّذي كان مقرا للحزب الحاكم ورمزا لسطوة النظام؟ حَاصَرَتْهُ الجماهير واقتلعَتْ كل شعارات ويافطات الحزب الحاكم التي كانت عليه وصودر وذهب إلى المصلحة العامة.
 

مثّلَ لي ذلك عزاء عن تلك الوشاية التي كادت تبعدني عن الجامعة دون رجعة، معتبرا كل ما حدث في تونس بضع انتصار، ومترقبا أن تسترد كل الشّعوب الثائرة حريتها وكرامتها واستقلالية قرارها الوطني، عندئذ سيكون الانتصار كاملا مكتملا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.