شعار قسم مدونات

المهنة التي ظلمها أهلها

blo - media
مطلع عام 2002، وفي شهر فبراير/شباط تحديداً، كانت بداية علاقتي ومعرفتي بمهنة العلاقات العامة، في ذلك اليوم استقبلنا في مطار أبو ظبي رجل خمسيني، بدت عليه ملامح التعب والضجر؛ ربما لأن الساعة كانت تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل، أو هكذا ظننت.

في الطريق إلى مدينة العين، حيث كان فرع شبكة جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، الذي سأدرس فيه لاحقاً، برفقة 19 شاباً قدموا من مختلف مدن فلسطين المحتلة، أسعفنا القدر جميعاً بمنحة دراسية في شبكة الجامعة، كان رجل العلاقات العامة يقود سيارته ببطء ممل، وكنت بين الفينة والأخرى أنكز زميلي عبد الرحمن، أو لعله هو كان يفعل، "الشارع فاضي وواسع مالو صاحبنا".

في اليوم التالي كانت محطتي الأولى في الجامعة مكتب العلاقات العامة، أردت السلام على الرجل، أو لعلي تظاهرت، فأنا لا أعرف غيره في هذا المبنى حتى اللحظة، ولا بد لي من استشارته في بعض الأمور.

كانت الحجرة صغيرة جداً، وبالكاد تتسع لمكتبين حشرا فيها حشراً، بدأت بالتحية ثم وجهني الشاب الجالس في الغرفة إلى ضرورة مراجعة قسم القبول والتسجيل لبدء إجراءات التسجيل.

المقدمة أعلاه قد تبدو لدى البعض نوعاً من الترف، أو (الكلام الفاضي) كما نقول نحن في بلاد الشام، لكن الواقع أن هذه المشاهدات البسيطة كانت كفيلة بأن تعطيني انطباعا -وإن كان عاماً- عن وظيفة ودور رجل العلاقات العامة؛ فقد كان موظفو هذا القسم بمثابة مُخَلّصِي المعاملات، واللوجستيين لكل ما يمكن لك أن تتصوره من أنشطة وفعاليات على مستوى الجامعة، بل إن وظيفة أخذ الطلبة للمركز الصحي ودائرة الهجرة والجوازات من أجل إتمام معاملة الإقامة كانت منوطة بموظفي قسم العلاقات العامة.

ولأنني لاحقاً قررت دراسة الإعلام، ولأن الكليّة كانت تجمع بين تخصصي الإعلام والعلاقات العامة، فقد قررت أن أقرأ عن التخصص، بل قررت أن أقرأ كثيراً.
 

الأزمة المالية العالمية التي بدأت إرهاصاتها أواخر عام 2007 وتشكلت وانتشرت مطلع عام 2008 كانت انفراجة حقيقية لمهنة العلاقات العامة

إلى مكتب مدرس مساق العلاقات العامة، الذي ربطتني به لاحقاً علاقة مميزة، بذلت جهدي لأشرح له كيف أن الممارسات المهنية التي ندرسها، والتعريفات المنهجية التي تضج مقرراتنا بها، لا تمت للواقع بصلة، وأن جامعتنا الموقرة واحدة من عشرات المؤسسات التي لا تعطي العلاقات العامة حقها، بل وتتعامل معها على أنها وظيفة كمالية يمكن لأي شخص القيام بها، وأحياناً لن يتطلب الأمر أن يكون الموظف حاصلاً على أي مؤهل أكاديمي، اللهم رخصة قيادة ومعرفة مؤسسات الدولة وقليل من الاطلاع على القوانين وإجراءات سير المعاملات، كفيلة بأن تجعل منك رجل علاقات عامة.
 

لاحقا بدأت ألاحظ كل كبيرة وصغيرة في كل مؤسسة أدخلها، بدأت أخبرهم بأن ما تسمونه علاقات عامة لا يمت للعلاقات العامة بصلة، وكيف أنهم بهذا يسيؤون إلى المهنة التي يفترض بها أن تكون راسمة الصورة الذهنية، والمسؤولة عن إدارة السمعة في المؤسسة.
 

الأزمة المالية العالمية التي بدأت إرهاصاتها أواخر عام 2007، وتشكلت وانتشرت مطلع عام 2008 كانت انفراجة حقيقية لمهنة العلاقات العامة، وبدأ الممارسون الحقيقيون للمهنة ببسط السيطرة على كثير من الأمور. الشركات نفسها -وهنا أتحدث عن الشركات العملاقة والرائدة- لم تجد في طريقها مخرجاً سوى شركات العلاقات العامة، التي بدأت إدارة الأمور بطرق احترافية، وبالطبع فقط كان لكل شركة خصوصية عن غيرها، إلا أن العلاقات العامة لعبت دوراً مهماً في التقليل من حدة الأزمة، ومن تفاقهما في كثير من الشركات والمؤسسات.

لاحقاً أصبح الميدان مفتوحاً أمام ممارسي العلاقات العامة المحترفين، وأبدت المؤسسات عناية أكبر بأقسام العلاقات العامة، واتجه سوق التدريب للإعلان عن عشرات البرامج التدريبية في المجال، ولأول مرة بدأنا نشاهد دمجاً حقيقياً بين إدارات الإعلام والعلاقات العامة على مستوى المؤسسات الحكومية والخاصة، وبدأنا نرى كيف أن المتحدث الرسمي باسم المؤسسة إنما هو في واقع الحال رجل علاقات عامة محترف، يتبع إدارة الإعلام والعلاقات العامة.
 

هذه المهنة لا زالت تُظلم كثيراً في منطقتنا، التي يفترض بها أن تكون بحاجة ماسة إلى خطط وبرامج علاقات عامة حقيقية

وعلى مستوى الأزمات اللاحقة: حوادث طيران، أزمات السيارات المرتجعة بسبب الأعطال، إشراف بعض البنوك على الإفلاس، … إلخ -وهنا أتحدث عن أزمات على مستوى العالم وليس دولة بعينها- وكان ممارسو العلاقات العامة فرسان المشهد، وأصحاب الحلول المخلّصة في كثير من الأحيان.
 

إلاّ أن ذلك -مع الأسف- لا يعني أن واقع المهنة قد نهض وتحسن في منطقتنا كثيراً، فلا زلنا نلحظ جهلاً مركباً باتجاه العلاقات العامة، من ناحية جهل الممارسين أنفسهم بالدور الحقيقي المنوط بهم، وذلك يرجع إلى غياب الخبرة وقلة التأهيل، وجهل مرده إلى غياب خطط وبرامج العلاقات العامة الحقيقية، التي ينبغي على المؤسسات أن تصرف جهودها إليها، وجهلٌ آخر بسبب عدم وجود تعريف مهني ودقيق للمهنة يختصر على كل من يريد الالتحاق بركبها الطريق.
 

هذه المهنة، التي يُنظر إليها في الغرب على أنها الأكثر أهمية، والتي يُختار موظفوها وروادها بعناية فائقة، لا زالت تُظلم وتُظلم كثيراً في منطقتنا التي يفترض بها أن تكون بحاجة ماسة إلى خطط وبرامج علاقات عامة حقيقية نظراً لكثرة الاضطرابات والأزمات التي تمر بها وبشكل متلاحق.
 

هذه المهنة التي يفترض أن يكون ممارسوها هم راسمو وصانعو الصورة الذهنية لمؤسساتهم والمسؤولون المباشرون عن إدارة السمعة بها، تظلم وأكثر من يظلمها أهلها.

العلاقات العامة تعرف باختصار على أنها فن إدارة السمعة، أو فن رسم الصورة الذهنية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.