شعار قسم مدونات

الفيسبوك مناضلا..

blogs - facebook
منذ تأسيس الفيسبوك Facebook على يد الطالب المغمور مارك زوكربيرغ سنة 2003، رغبة منه في خلق شبكة تواصل مع أصدقائه داخل جامعة هارفارد، ظل عملاق التواصل الاجتماعي يحقق نجاحات مبهرة؛ فإلى جانب الأرباح الخيالية التي يجنيها المؤسس والخبراء المعلوماتيون والموظفون بإدارة الموقع، تمكن الفيسبوك من فتح نقاشات واسعة حول جملة من القضايا التي ظلت لردح من الزمن بمثابة طابوهاتٍ لا يحق لأحد أن يدلي فيها برأي، ومحرماتٍ لا يحسن بالمرء أن يحشر أنفه فيها. وتتوزع هذه القضايا بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي واقتصادي.

فبفضل الفيسبوك نشأت مجموعة من الحركات الاحتجاجية حول العالم، في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا والصين وغيرها.

أما في عالمنا العربي فقد كانت بصمته واضحة، وذلك لأسباب عدة، من أبرزها أن الدول العربية هي الأكثر فسادا بين نظيراتها. هذا الفساد الذي استشرى في مفاصل دول المنطقة، بدءا بالمجال السياسي وليس انتهاء برديفه الاقتصادي، عطَّل طاقات الشباب العربي، وهي الفئة التي تشكل قاعدة الهرم السكاني بالمنطقة، مما شكل موجة غضب عارمة على الأوضاع البئيسة التي كانت من نتاج تحالف السلطة المستبدة مع الاقتصاد المحتكر.

فيسبوك أحدث ثورة في الإعلام، وأسقط جدار الهيمنة والاستئثار على مجال مهم في عصر الصورة

هذا السخط المتفاقم من قبل الشباب كان غالبا ما يُصرف في شكل تظاهرات احتجاجية محدودة في الزمان والمكان، ويُنَفَّس من قبل الدولة في احتفاليات صورية يوم عيد العمال العالمي، لكن بقي هذا الامتعاض الشبابي محاصرا بسياسة الإلهاء المتبعة من قبل الحاكم العربي، موازاة مع إحكام قبضته على الإعلام.

فلم يجد الشباب العربي متنفسا إلا مع ظهور ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعية، وعلى رأسها موقع الفيسبوك، الذي أحدث ثورة في الإعلام، وأسقط جدار الهيمنة والاستئثار بمجال مهم في عصر الصورة، أو قُلْ أحدث كوة في هذا الجدار منها بزغ نور الحرية الذي كسر حاجز الصمت والخوف.

فلولاه لما نجحت ثورات الربيع العربي التي اغتيلت أهدافها الكبرى، فيما بعد، إما بالانقلاب أو الالتفاف أو الاحتواء أو بالتحريض بين أبناء القطر الواحد. كل ذلك لم يكن ليغيب على عين الفيسبوك، بداية بالتعبئة والمشاركة والانخراط في التظاهرات، مرورا برصد الانتهاكات إبان الثورة، وختما بفضح التآمر الدولي حول التجربة الديمقراطية الفتية التي كان الشباب صانعها الأكبر.

وليس ما حدث أخيرا في تركيا إلا من تجليات هذا التعاظم الذي طبع دور الفيسبوك إلى جانب المواقع الاجتماعية الأخرى؛ فلو افترضنا جدلا أن المحاولة الانقلابية الفاشلة حدثت في أواخر القرن العشرين أو أوائل القرن الواحد والعشرين حيث الإعلام الواحد والرأي الواحد، فلا جرم أن النجاح كان سيغدو حليفها ولأصبحت المحاولة واقعا متمكنا.

لكن بمجرد أن أطل رئيس الدولة على الشعب التركي من خلال تسجيل مصور وجيز على شاشة صغيرة أشعل مواقع التواصل الاجتماعي، وأذكى حماس الجماهير، وفي سويعات قليلة أحبِط الانقلاب الذي كان سيصفق له العالم (الديمقراطي المتحضر)، بعد أن يقلق ويستنكر ويدين ويستهجن بألفاظ محفوظة في شكل مسرحيات هزلية.

أما في حالتنا المغربية، فلم يكن دور الفيسبوك أقل تأثيرا، بل ظل الشباب متتبعا لكل القضايا، فوجد بعضُها طريقها إلى الحل، وأُثيرَ نقاش في أخرى من باب نشر الوعي ودفع الناس إلى الاهتمام بقضاياهم المحلية.

وأمثلة ذلك كثيرة، نذكر منها على وجه الإيجاز قضيتي "مي فتيحة" و"قائد الدروة" اللتين أريد لهما الإقبار، لكن يقظة الشباب الفيسبوكي أرغمت المسؤولين على تقديم المتهمين للقضاء، وكذا ما عرف إعلاميا بـ"نفايات إيطاليا"، فبعد مراوغات ومناورات من الحكومة استجابت لضغط النشطاء، وقررت وقف استيراد النفايات للأغراض الصناعية.

كما كان الفيسبوك سندا لمجموعة من الاحتجاجات التي خاضها رجال التعليم في إطار التنسيقيات التي أسسوها ردا على تجاهل مطالبهم، ونكوص النقابات عن التعبير عن مظلوميتهم وتطلعاتهم.

ونظم الفيسبوكيون المغاربة حملات تضامنية واحتجاجية ناجحة كحملة "أستاذي راك عزيز"، و"زيرو كريساج" التي جاءت ردا على حوادث الاعتداءات المتكررة والسرقة المنظمة تحت تهديد السلاح بمجموعة من المدن.

ويعود سر نجاح النشطاء على الفيسبوك في تحريك بعض الملفات وحلحلة بعض القضايا إلى الإمكانات التي يتيحها الموقع في خلق تواصل فعال بين أعضاء المجموعات، وكذا إلى ما يتيحه من نشر الوعي والإلمام والإحاطة بتفاصيل القضايا الراهنة والعلم بمستجداتها، ونظرا لما يوفره الفيسبوك من مستوى عال من التعبئة والحشد والتنظيم والتنسيق، كما يبين أيضا قدرة كبيرة على الإخبار والتحفيز، بتعميم المقاطعة والاحتجاج أو المؤازرة والتضامن.

من يستهين بدور فيسبوك فعليه أن يتساءل عن البواعث التي تدفع بعض الدول والحكومات إلى قطع الإنترنت وحجب حسابات النشطاء على مواقع التواصل

كل ذلك بسرعة وفعالية وفورية مع ضمان طبيعي لاستمرار النفَس الاحتجاجي، لكوْن النضال عبر شاشات الحواسيب والهواتف لا يرهق الناشط بَدَنيا ولا ماديا، خلاف النضال التقليدي الذي يتطلب الوجود في الساحات وما يلزم ذلك من جهد.

وإذ نعُدّ هنا حسنات الفيسبوك، فهو ليس بكل حال بديلا عن النضال الكلاسيكي بل هو يسنده بتتميم عملياته واختصار مراحله واقتصاد تكاليفه.

ومن يستهين بدور Facebook فعليه أن يتساءل عن البواعث التي تدفع بعض الدول والحكومات إلى قطع الإنترنت وحجب حسابات النشطاء على موقع التواصل، وقرصنة واختراق حسابات أخرى. ومثل ذلك ما أقدمت عليه وزارة الداخلية في بداية هذا العام (2016) ببلادنا من غلق حسابات بعض الفيسبوكيين المغاربة وأشكال أخرى من المنع.

وبعد كل هذا، فمن المجحف أن نصنف الفيسبوك في خانة السَّلبي في حالة الاستخدام المنضبط المسؤول، مع عدم إنكار سَلبياته التي لا تظهر إلا مع سوء الاستعمال ودناءة هدف التوجيه والاستغلال.

وليس من الإنصاف الإبقاء على نكتة الترجمة الحرفية لاسم الفيسبوك (Facebook) التي يتندر بها المغاربة، وهي: "إِيلَى قْرِيتِي شِي كْتَابْ (Book) هَا وْجْهِي (Face)" وخلاصة معناها أن الفيسبوك مضيعة للوقت لا فائدة منه ترجى، لكن من الفضيلة أن نتندر بالترجمة الحرفية اللسانية والصورة التطابقية الشكلية بقولنا: "حَمَّرْ بالنِّضَالْ وْجَهْ (Face) بُوكْ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.