شعار قسم مدونات

أين دوستويفسكي العرب؟

blo - media

إن تحدثت مع أي كاتب أو أديب عن الأدب ورموزه وأيقوناته فإنه سيأتي، لا محالة، على ذكر دوستويفسكي، وسيعترف على الأغلب أنه تأثر به ورغم أن كثيرين من مواطنيه الروس يمقتونه لأنه يفضح عيوب الإنسان، وعيوبهم بالأخص، بطريقة صارخة ومؤلمة ويكشف النقاب عن أمراضهم وعقدهم النفسية بصراحة مبهرة ويمحص سيكولوجيتهم بعمق لا نظير له فإنه من المنصف القول إن الكثيرين منهم يعشقونه أيضا لأنه يقوم بتعرية الإنسان وعرض قبائحه أما جمهوره خارج نطاق روسيا فحدث ولا حرج.
 

يرسم دوستويفسكي هشاشة البشر بأجمل ريشة ويتحدث عن موبقاتهم بلسان حاد على نحو كئيب ومفزع ومؤلم لكنه يوفر دائما وميضا من الأمل في نهاية المطاف.
 

الجميل في الأمر أن تناول دوستويفسكي للقضايا لا يقتصر على الاجتماعية منها فحسب، بل يتصدى لقضايا جوهرية أخلاقية كالخير والشر والتدين والإلحاد والجريمة والعقاب 

يقرأ الناس أعماله باشمئزاز ولكن بانبهار عجيب في أن معاً فتلك الحدية التي يتناول فيها الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية المهمة هي حدية تبلغ أقصى مداها مما يجعل القارئ مفتونا بسحر طرحه وطغيان سرده.
 

إنه يدفع بالسؤال إلى أقصى مدى وينقل لنا ما يدور في رأس المغتصب والقاتل والسارق والمسؤول والقسيس والعاهرة والأبله والزوجة والسجين والمدمن ، الخ بطريقة بارعة لا تسعفني الكلمات للتعبير عنها،فما عليك إذن، بعد قراءة أعماله الخالدة بالطبع سوى أن تعشقه أو تمقته حتى النخاع أيضا، أما أنا فأعتبر قراءة أعماله من الواجبات.
 

والجميل في الأمر أن تناوله للقضايا لا يقتصر على الاجتماعية منها فحسب، كما يفعل تشارلز ديكينز أو جين أوستين وغيرهما في جل أعمالهم، بل يتصدى لقضايا جوهرية أخلاقية وجودية كبرى كالخير والشر والتدين والإلحاد والجريمة والعقاب والعبودية والألوهية وغيرها ولهذا يعتبر مؤسسا للمذهب الوجودي في الأدب.
 

ركزت أعماله على موضوعات كبرى كموضوعة الأخلاق والدين وغيرها فيسبر أغوارها من خلال ألسنة وحركات وسكنات ومواقف شخصياته، إذ تتجلى على سبيل المثال، صفات العهر والنفاق والسرقة والقتل والإلحاد والجبن والبخل والتهميش والظلم والموبقات الأخرى في شخصيات مقيتة يرسمها ببراعة فائقة ويمقتها هو شخصيا ويركز على نقيضها ، من طرف خفي، ليقول لنا إن الالتزام بالاستقامة والتدين والإيمان وعمل الصالحات وإقامة العدل والتشبث بأرفع درجات الأخلاق أمور تُحيي الأفراد والمجتمعات و الأمم.
 

إذ يعرض دوستويفسكي كل ذلك بسلاسة من خلال رواياته ولا يرغمنا، نحن القراء، على الاقتناع بأفكار شخصياته…بل يحثنا على فهم تعقيداتهم لنخلص بمفردنا الى نتيجة مرضية…أو يختلط علينا الأمر ولا نفهم ما يريده في أحيان أخرى لنخلص الى تفسيرات مختلفة قد تكون بعيدة تماما عما أراده.
 

تعتبر شخصيات رواياته متعددة الوجوه والأصوات والتركيب شأنها شأن كل واحد منا. لكنه يوفر مساحة لفهم تركيباتها الوجدانية والعقلية والسلوكية، فهو يأخذنا في رحلة إلى أعماق أعماق النفس البشرية ليتحدث بلسان الشرّ في معظم الأحيان.
 

أما القساوسة ، رجال الدين، والشرفاء والأنقياء والطاهرين فهم موجودون في رواياته كأيقونات تعبر عن الخير السرمدي الصامت لا يغيرون الأحداث كثيراً ولكنهم موجودون فحسب فالدين من وجهة نظره، يجب أن يفهم معاناة الناس ويغربل معادلة الشرّ ليقارع الملحدين بمحاجة الخير، أما مسؤولية نشر الفضيلة وعمل الخير فتقع على عاتق الجميع وأولئك الذين يتهاونون في تحمل المسؤولية يجعل دوستويفسكي لهم حيزاً كبيراً في رواياته ليفهمهم القارئ ويمقتهم كما يمقتهم المؤلف تماماً.
 

وقد سبق وأن قلت إن دوستويفسكي تناول قضايا كبرى. وخير مثال على ذلك روايتيه: الجريمة والعقاب والأخوة كارامازوف، ففي الأولى تناول العبقري قضية اقتراف الجريمة وعواقبها. نجد بطل الرواية، راسكولنيكوف، يفكر بجدية في قضية أخلاقية تتلخص، من وجهة نظره، في قتل نفس لتعيش نفوس أخرى حياة هانئة. فيقوم بقتل العجوز المُرابية، التي تبتز الجميع بفرض أموال ربوية على كل دائن يرهن حاجة عندها، بغرض أخذ مالها ليتابع دراسته ويفيد بعد تخرجه العالم بأسره، فقد كان يتخيل نفسه نابليون عصره
 

يقترف الجريمة إذن ولا يعتبر فعله المشين عملا شريرا، في البداية، على الإطلاق. بل يزعم أنه أراح الناس منها ومن جشعها فوجودها يلحق ضررا بالغا بالمجتمع لكنه لا يلبث بعد صراع نفسي مرير مع عواقب الجريمة، يمتد على طول الرواية، أن يعترف بأن ما قام به مناف للأخلاق والمنطق والدين والمبادئ الإنسانية. لذلك يسعى إلى طريق التوبة.
 

وهنا، يتبادر إلى ذهني النظرية النفعية التي روج لها الفيلسوف جيريمي بنثام والتي تقول باختصار إن سعادة الكل رهن بتعاسة البعض، وقد يُضحى بقوم ليعيش أقوام.
 

أفكر هنا أيضا ببزوغ نجم الأيديولوجيات والحركات المتطرفة، ابتداء بالبلشفية والفاشية والنازية ومرورا بالستالينية وانتهاء بتطرف الحركات الدينية التي تعيث في مجتمعنا العربي وفي العالم فسادا في الوقت الراهن. فقد اعتمدت تلك الأنظمة والحركات على الفكرة ذاتها التي كان راسكولنيكوف مقتنعا بها اقتناعا تاما.
 

ومن اللافت استخدام كلمة راسكول، التي تعني الشرخ، schism ، في تسمية بطل هذه الرواية: راسكولنيكوف. لكن الأخير ندم وتاب وأناب. أما أولئك الذين يقطعون الرؤوس والذين يقتلون شعوبهم في عالمنا العربي فلم يندموا ويتوبوا بعد، فهم يعتقدون كما اعتقد راسكولنيكوف أنه لا ضير في قتل نفس أو نفوس إذا ما نتج عن القتل حياة ورفاه الأمة. ويا حبذا لو فعلوا مثل راسكولنيكوف فتابوا وأنابوا.
 

يوسم دوستويفسكي بنبي الأدباء، ويقال إنه تنبأ بالثورة البلشفية

اما الرواية الأخرى التي تعتبر تحفة دوستويفسكي الأروع فتتصدى لقضايا كبرى تتجسد في شخصيات الأخوة كارامازوف. ديمتري، أليوشا وإيفان وسمرديكوف، الإبن غير الشرعي وشخصيات أخرى كالراهب زوسيم.

ويذكر هنا أن دوستويفسكي أراد أن يفرِّغ عصارة تجاربه في هذه الرواية لتكون إرثا له بعد مماته. وقد كانت كذلك بالفعل لأنها من أتقن الروايات وأجملها على مرّ العصور. لا يمكننا سرد تفاصيل الرواية في هذا المقام لكن حسبنا أن نقول أن دوستويفسكي يسرد لنا أحداثا مؤثرة تحصل مع الأب فيودور وأبنائه الأربعة ويتحدث فيها عن قضية وجود الشر في حياة البشر والحكمة الربانية من تجلياته المؤلمة. يطرح الكاتب الفذّ هذا السؤال الفلسفي الكبير ويجيب عليه على ألسنة أبنائه.
 

يوسم دوستويفسكي بنبي الأدباء. ويقال أنه تنبأ بالثورة البلشفية. لقد كانت أعماله وأعمال تولستوي وغوغل وغيرهم من نخبة الكتاب الروس، كانت تمهيدا لنشوء الثورة ذاتها.
 

فهل لدينا دوستويفسكي عربي يمهد لثورة أخلاقية عن طريق تغذية الفكر وصقل المفاهيم السامية الموجودة أصلا في ثقافتنا وديننا السمح؟ هل ثمة عقل ضخم بمثابة عقل تولستوي يغرس في شبابنا من جديد مبادئ الحب والجمال؟
 

أقول وللأسف أن خارطة بلداننا الأدبية تخلو من قامة بحجم دوستويفسكي أو تولستوي، فقد ذاع صيت هذان الرجلان فملأ الآفاق ليس لكونهما مجرد روائيين عظيمين بل لأنهما كانا حاملين لشعلة الأخلاق والمثل الإنسانية التي نفتقدها للأسف في وطننا العربي رغم وجود أعظم رسالة وأعظم نبي بين ظهرانينا.
 

ألم يكن دوستويفسكي مؤمنا إيمانا عميقا بأن شعلة رسالة المسيح ألقيت على عاتق الشعب الروسي، بغض النظر عن التزام الروس بها. ألم يقل أن نجمة الإيمان بزغت في الشرق؟ أين إيماننا نحن؟ أين شعلة الإسلام وأين عمالقتنا؟ أين كتابنا من تلك العظمة؟ أين هو دوستويفسكي العرب؟ دلوني عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.