شعار قسم مدونات

هواجس شاب موصلي

Blogs - Iraq - Musel
 
يبدو أن مشاعري تجاه الموصل أتشاركها مع نحو مليون إنسان ممن نزحوا على حين غرة بعد سيطرة تنظيم الدولة، وخلال السنتين ونيف لم أصدق أنني فقدت كل هذا العدد من أصدقائي.

نعم، مات علي ويزن وخالد وذنون، لكنني لم أصدق أبداً أن هذا قد حدث، كنّا نعتقد بأن ظروفا استثنائية حلت بنا وسترحل سريعاً، أو هكذا قالوا في نشرة أخبار التاسعة، حينها لم نصدقهم، لكنّ خياراتنا في السماع والتصديق كانت قليلة؛ إذ جففت منابع الأخبار من الداخل، أما الخارج فكان الإعلام يرّوج لأخبار تزكم النفوس، لا تحمل أي قيمة، في كل الأحوال قررنا تمرير الكذبة على أنه خبر لا بديل له، ثم قلنا كما قالوا أن المِحنة عدة شهور، فأصبحت سنين، والخراب ما زالت مساحته تتسع.
 

من في الداخل عايش تجربة فريدة في صعوبتها، رأى كيف تنهار الحكومات ثم كيف تتشكل إداراتها، ثم كيف تُخاط الأفواه منعاً من الكلام

"تطشرنا" نحن الموصليين بين عدة مدن، معظمنا بين كردستان ومارسين وإسطنبول، بعضنا قرر الذهاب تجاه أوروبا، والبعض الآخر استقر جسده في أعماق البحر، غير أن أرواحنا جميعا لا تزال تطوف حول المدينة بالقرب من أبوابها السبعة، ألا تراها تدخل منها.. لا، لأنها غُلّقت بإحكام على من فيها، بات الشهيق والزفير مراقباً، ثم هجرنا العلم والتعلم في الأكاديميات، لتبقى الحياة معلمنا الأول، ونعيش تجربة تكاد لا تتكرر إلا نادرا.

صديقي أحمد الذي فقد كل شيء، وجد نفسه فجأة في تركيا، قرر الدخول في العمل الإعلامي، خاصة بعدما أقنعه صديقه بأنه يمكن أن يوفر له معيشة جيدة، تدرّج في المهنة خلال سنتين، وها هو الآن يدير الكُتاب في إحدى المواقع الإلكترونية، رغم أنه في الموصل لم يكد يسمع اسمها أو يطالعها.

لي صديق آخر اسمه حمدون، عندما وصل فنلندا، بدأ التكيف مع ثقافتها بالإضافة إلى تعلم لغتها، وهكذا بعد أن "تطشرنا" بدأنا ممارسة اختصاصات مختلفة عن تلك التي كانت بين أعيننا، كأنها أصبحت بعثات تعليمية، لكنها غير مقتصرة على الأكاديميين.

من في الداخل عايش تجربة فريدة في صعوبتها، رأى كيف تنهار الحكومات، ثم كيف تتشكل إداراتها، ثم كيف تُخاط الأفواه منعاً من الكلام، رأى الموت يجول في المدينة ويطرق الأبواب ليلا ونهارا، رأه ينزل من السماء مثقلا بوزنه ليضعه دون رحمة فوق بيت أو شارع، رأى قوات متعددة الجنسيات ضمن المفهومين الدولة واللادولة، دفعه شظف العيش وتوقف عجلة التعليم إلى الاتجاه للأعمال اليدوية والحياة التجارية.

كان لي صديق قريب، اسمه علي، من الذين بقوا داخل المدينة، سابقا كان أغلب وقته منكبّاً على كتابه، لا يفقه من حياته أكثر من ذهابه وغدوه إلى مدرسته، أما الآن فهو يعرف كيف يكسب "الفلس"، ويعرف جيداً خريطة "العوجات" في الأسواق و"المحاليل" القديمة، بعدما كان يصرف وقتاً ليستطيع بالكاد الخروج من متاهاتها.

أما مصطفى، الشاب الموهوب، فقد امتهن صيد الأسماك، واستطاع أن يربط بين كسب العيش والابتعاد عن مشاكل المدينة، أصبح صديقاً للنهر، يعرفه ويعرفه، تمكن من تجاوز مرحلة الجوع التي عصفت بالمدينة، وكان رغم عمره الذي لا يتجاوز 18 عاما قادراً على إطعام عائلة من ستة أشخاص.

مرحلة الجوع تلك بدأت حكايتها حينما قررت حكومة بغداد قطع الشريان المالي الأهم عن المدينة، رواتب الموظفين، أحدث ذلك القرار نقطة فارقة في الوضع الاقتصادي للمدينة، بدأت الناس تجوع فعلا، ووصلت الحال بكثيرين إلى أن أكلوا ما لا يؤكل. نعم، أصبح الجوع شبحاً يطارد المواطنين، يطرق أبواب المنازل المهترئة في الأحياء الفقيرة كل يوم طيلة عام كامل، كان الجوع يُرى في كثرة المتسولين وفي الوجوه المصفرّة، كانت أحب العبادات حينها الإنفاق والصدقة، هكذا قال لنا الإمام.

مجموعتي المؤلفة من ثمانية شباب انتشرت بين خمسة أقطار، حيث تعددت البلدان وتعددت المهن التي نعمل بها، ولم نعد مهندسين، ولم يعد أولئك يتكلمون العربية باستمرار كما كانوا

يقترب هذه الأيام دخول قوات جديدة إلى المدينة، ها هم يصرحون في الإعلام بأنهم على أعتابها، في داخلي تجوب مئات الأسئلة: كيف سيكون لون المعركة؟ وما مصير أولئك الذين يتوعدون المدينة بالانتقام والحرق؟ وترعبني كثرة الكلام عمّا بعد التحرير، وهذه النغمة الانتقامية الهمجية التي تملأ الشاشات من قبل المليشيات وعناصر من الحشد، تركت قلمي على الطاولة التي أمامي فترة، جلست أتساءل: يا ترى كيف ستكون تلك اللحظة؟ لست قاصداً لحظة دخول القوات الجديدة، بل لحظة رؤيتي من اغتصب بيتي، إن بقي حيّا، ماذا سيقول لي؟

أم هل سأصدق تبريراته المزعجة، يا ترى هل سيصدق الآلاف الذين صُودرَت بيوتهم القصص التي ستُروى لهم، كيف سيقول لي فلان إن هناك عائلة مغاربية جلست في بيتنا، أم كيف سيقول إنه سارع إلى بيع أواني والدتي في سوق الغنائم، أشعر بأن قلوبا كثيرة ستتوقف في أول لحظة أبصر بها حي الكفاءات.

حي الكفاءات من أكثر الأحياء التي صُودرَت فيها المنازل، لأن بيوتها جميلة، تليق بدرجة الأمراء، في الحقيقة، هي بيوت صُممت لتليق بأساتذة الجامعة وأهل العلم، أو هكذا أُريد لها أن تكون. أذكر أن معظم أساتذتي في كلية الهندسة كانوا جيراننا وكانوا أصدقاء لأبي، كنّا نصلي في مسجد الحي، ثم أين هم؟ "تطشروا" هنا وهناك، ولم يعد مسجدنا يسعنا مجددا.

مسجدنا الجميل مثل باقي مساجد الموصل، تتزين به المدينة، كنّا في المنطقة نؤسس لدوري المساجد، هذا نادي جامع الرحمة، وذاك نادي جامع بهاء وهكذا دواليك بقية مساجد الموصل، حتى حدثت تلك اللحظة الفارقة، حينما ثُقبت الكرة و"تطشر" لاعبو النادي؛ فلم تعد ساحة، ولم نعد نحن مع بعضنا.

مجموعتي المؤلفة من ثمانية شباب انتشرت بين خمسة أقطار، تعددت البلدان وتعددت المهن التي نعمل بها، لم نعد مهندسين، ولم يعد أولئك يتكلمون العربية باستمرار كما كانوا، والآن بعضنا يخطط للعودة، ويحمل في جعبته مشاريع ابتكارية لبناء المدينة، وبعضنا قرر أن يكون جزءاً من المهجر ويكون المهجر وطناً له.

لم يعجبني رأيه، ومهما حاول إقناعي لن يعجبني، في الحقيقة حاولت إقناعه والعدول عن رأيه، ناقشته وطلبت منه أن يعود، لكنه قال لِمَ العودة؟ إلى قريب ملّكته أمري، لا، لن أعود. وهكذا بقينا نحن بين خيارات أحلاها مُر، فالموصل حبيبتنا، ولا تزال كذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.