شعار قسم مدونات

الركض في طرابلس

Blogs - Jogging - Lybia
هناك مشاهد نشاهدها مصادفة ونحن صغار بصحبة الأسرة أو وسط الزحام دون أن يلاحظ الكبار انتباهنا وتحديقنا فيها ببلاهة.. تُحفر في ذاكرتنا حفراً دون غيرها، وتبقى محفوظة في مكان من عقلنا دون أن نعي ذلك.

كان مشهد الطفل الذي كسرَ الدعامات التي تُحيط بقدميه وركض بسرعة دون توقف مع الموسيقى التصويرية التي تصحبه وزاوية الصورة معاً؛ مشهداً آسراً، حينها شاهدتْ هيَ الفيلم دون أن تعي روعة فورست غامب ولا براعة توم هانكس في أداء الدور وسلاسة القصة وإقناعها للجمهور.. كان المشهد آسراً لأن ركض البطل دون توقف في عدة مراحل من حياته كان مُذهلا.. كم كان غامب محظوظا بالتعبير عما في جوفه عبر الركض.

لا تركض هي مثل غامب بسرعته وهوسه وتفرّد شخصيته، تستيقظ في الصباح الباكر ثلاثة أيام في الأسبوع، تتجه نحو المضمار الوحيد المتاح للزوار في طرابلس، تصفّ السيارة وتنزل.. وجهتُها المشيُ لحظات ثم الانطلاق والجري.. لم تأت لحرق سعرات حرارية، بل لحرق مشاعر الإخفاق وقلة الحيلة وكل الكوابيس؛ لحرق كل ما لا تستطيع حرقه في الواقع.

بحذاء رياضي رخيص لكنّه مريح، تلوّثَ لونُه الأصلي بوحل الطريق غير المعبدة التي تسكنها، تجري هيَ وتركض وتستبدل برشاقة وسرعةٍ قدميها فوق المضمار، بحركة لا نعي تفاصيلها لأن الجهاز العصبي يتولى إدارتها في إشارات عصبية غاية في السرعة..

تركض وقدماها تكاد تطيران من السرعة، تلتقط أنفاسها وتلهث، يتعرق جسدها فيجف الحلق ويصير اللسان خشناً جافاً كالورق
تزيدُ هي سرعةَ ركضها كل بضعة أمتار، فتشعر أنّها تركض نيابة عن كل من فقدوا سيقانهم في الحرب أو غيرها أو منذ ولادتهم.. تجري وتشعر أنها تهُديهم شعورها بالتحرر والاستقلالية والقوة حتى لو كان كل ذلك مجرد وهم.. تركض نيابة عن كل من يتحرك بكرسي أو بعكاز، بل ونيابة عن كل الكسالى الذين أهملوا تحريك سيقانهم وأهملوا ملاحظة النعم التي يعيشون فيها، والطاقة التي ينتجها الركض والسعرات التي يحرقها والراحةَ التي يمنحها..
 
وهل يستطيع أحد الركض نيابةً عمن فقد ساقه أو قدمه؟! ومن قال إنهم بحاجة إلى ركضنا!؟ لكنّ مفعول الجري السريع وتحريك الأطراف وازدياد ضربات القلب مع هبوب نسيم البحر المتوسط صباحا، يوحي لصاحبه -على ما يبدو- بإمكانية ذلك.. الركض يَسرح بك، يأخذك بعيداً ويُسكّن آلامك.

تركض هي وكأنها لا تستطيع التوقف، تمرّ مُسرعة كالسهم قرب السيدات اللاتي يسرن ببطء وسلام، تجري بسرعة كالهاربة من شبح يطاردها، كالمذعورة.. لا تعلم السيداتُ اللاتي يمشين فوق الأرضية المطاطية للمضمار أنّها لا تراهم، بل ترى أمامها كل الذين سبقوها والذين مروا في حياتها، وأحلامَها التي تتمنى الاتجاه نحوها في خط مستقيم ودون المزيد من المتاعب والتأخير.

تركض وقدماها تكاد تطيران من السرعة، تلتقط أنفاسها وتلهث، يتعرق جسدها فيجف الحلق ويصير اللسان خشناً جافاً كالورق، ومع هذا لا تتوقف..

 
تمشي أغلب النساء على مهل، أما هي فتركض كمن يطارد فريسة أو كمن يريد اللحاق بطائرة العودة الأخيرة إلى الوطن أو الهجرة النهائية منه، عيناها مفتوحتان على اتساعهما في اتجاه الريح، تتخيل أنها بالجري ستلتقط حلمها.

جميع من قدِمَ اليوم لممارسة الرياضة سيدات، لا رجال هنا في المضمار، فقد فُصل المضمار قبل نحو عامين إلى ثلاثة أيام فقط للنساء ومثلها للرجال حتى لا يمارسوا الرياضة في نفس المكان ونفس الوقت معاً، وقد كانت هي تركض منذ أن كان الرجال والنساء يركضون معاً ستة أيام في الأسبوع، وحينها أيضاً كانت تركض دون أن تلاحظ نوع الشخص الذي يشاركها الجري، فمن جاء وهدفه مطاردة أحلامه لن يهتم بما يرتديه الناس ولا بنوعهم وشكلهم، لكنّ نوعية المخاوف التي كانت تأتي لحرقها اختلفت منذ عامين إلى اليوم، وتختلف مع تغير هموم الناس.

لا تنتبهُ الكثير من زائرات المَمشى المزيّنِ بزهور الوينكا الملوّنة والقرنفل ونبات الإكليل، لا ينتبهنَ لشاطئ البحر المتوسط برغم أنه يقع في الضفة المقابلة للمضمار وما جاوره، ولا ينتبهنَ كذلك للقاعدة العسكرية البحرية على الضفة الأخرى، لا يفصلهنّ عنها سوى الطريق الساحلي، وهي ليست مجرد قاعدة في ضواحي العاصمة، بل مقرُ أعمال رئيس الحكومة التي تدعمها الأمم المتحدة والتي لم تباشر مهامها بعد.

 
وبمحاذاة مكان رياضة هؤلاء السيدات -وهو ليس مضماراً فقط بل متنزها كبيرا لممارسة الرياضة والترفيه- يقع مقر إحدى المليشيات المسلحة في العاصمة.. مجموعة مسلّحة لها مقر أمني وسيارات عسكرية ذات زجاج معتم، وينتسب إليها الكثير من شباب المنطقة لتوفر لهم فرصة عمل ودخلاً ماديا..
 
اركض وكأن سرعتك ستجلب لك وطناً آمناً جميلاً ومالاً وخدمات أفضل، وكأن ركضك سيجعل الكهرباء لا تنقطع والإنترنت أسرع

يتقلب موقف كل المليشيات -بما فيها هذه- مع كلِ تغير سياسي.. يا إلهي تكون الأمور بسيطة حتى نعقدها وننظر إليها بشكل مختلف.. كنا نحكي عن الركض والأحلام ووجدنا أنفسنا في السياسة رغم بُعدنا ظاهرياً عنها..

لكن هذه المدينة الساحلية تعاني ندرةَ الأماكن التي يمكن للنساء الركض فيها، تمنع أعينُ الناس هنا وأعرافهم النساءَ من الركض في الشوارع بحرية، رغم أن الجميع هنا رجالا ونساء -دون استثناء- بحاجة إلى من يُنفّس عن نفوسهم آثار المعارك والحرب وغلاء الحياة وتعقيداتها، وربما هذا ما يجعلهم يكترثون لموقع أماكن ممارسة الرياضة أكثر من التفاتهم إلى مقر الحكومة أو غيرها.

ورغم كل مصاعب الحياة والترقب والبؤس الذي يعيشه الناس هنا، لا يمارس الكثير منهم الركض، يعبّر كل منا عن خوفه بطريقته؛ فهذه تركض ثلاثة أيام أسبوعيا، وغيرها يفر من مرارة واقعه وطلبات حياته وعياله إلى النوم، وآخرون يهيمون مع هواتفهم والإنترنت وفي المقاهي، وغيرهم يعيش الواقع كما هو ينتظر في الصفوف الطويلة أمام المصارف أو غيرها، ونوع آخر اختار المقاومة وزرع الشجر والبذور على جوانب الطريق والرسم على الجدران وعلى وجوه الأطفال.. تتعدد ردات أفعالنا تبعاً لطاقتنا..

فإذا ما قادتك أقدارُك أو اخترتَ البقاء في المدينة التي يُصفّي فيها الخصومُ حساباتهم، لا تتوقف، بل ابحث عن طريق مستوٍ واركض.. اركض وكأنّك آخر من تبقى على الأرض، وكأن كلّ الناس سيتركونك خلفهم وحيداً، وعليك الآن اللحاق بهم بأقصى سرعتك.. اركض وكأنك ستلتقط حلمك.. تخيل نفسك يوسين بولت وابتسم بثقتك في الانتصار وأنت تفوز عليهم جميعا.

اركض وكأن سُرعتك ستجلب لك وطناً آمناً جميلاً ومالاً وخدمات أفضل، وكأن ركضك سيجعل الكهرباء لا تنقطع والإنترنت أسرَع.. ارفع قدميك فوق الأرض بسُرعة، وكأنك ستسبق كل الأشياء التي فاتتك، وستذهب إلى أوروبا بجناحيك وليس كالذين عبروها على قارب مطاطي.. اركض بكل قوتك وكأن ركضك سيوقف ركض الأيام وتسارعها، وسيعيد إليك شبابك أو طفولتك.. وقبل التوقف خفف سرعتك، لئلا توقظك الصدمات المفاجئة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.