شعار قسم مدونات

الصحافة المطبوعة.. ذات الأرواح السبع

blog-الجريدة

 لا أنسى يوم كنا صغاراً كيف كنا نفرح حين يُحضر أحد كبار بيتنا جريدة ورقية، بيضاء أو خضراء، وكيف كنا نتشوق للحظة التي يتركها ويغادر، لنتقاسم صفحاتها ونقرأها بالتناوب. كنا نقرأ الصفحة مرات ومرات حتى نكاد نستظهرما فيها من أخبار ومقالات، ونفكّ ألغاز صفحة التسالي، بالرغم أننا كنا نتحاشى الكلمات المتقاطعة لأننا لم نكن نعرف ما هي، كان ذلك في زمن لم نعرف فيه الإنترنت، ولم يكن في بيتنا تلفاز ولا حاسوب.

كم أنذرت التحليلات بدنوّ أجل الجريدة الورقية على يد التلفاز والشاشة مع بزوغ فجر الإعلام الجديد، إلا أننا لا نزال نرى الصحافة الورقية باقية في بعض المجتمعات وإن اعتراها الوهن والضعف

أتذكر ذلك الزمن والشغف بالصحافة المطبوعة كلما قرأت تحليلاً عن مستقبلها، فكلما جاء النذير بقرب موتها وإعلان احتضارها جاء البشير بأنها ما زالت "حية تسعى".

فكم أنذرت التحليلات بدنوّ أجل الجريدة الورقية على يد التلفاز والشاشة، ثم تكررت تلك التحليلات مع بزوغ فجرالإعلام الجديد، الذي بدا أشدّ وقعاً على الجرائد والمجلات، إلا أننا لا نزال نرى الصحافة الورقية باقية في بعض المجتمعات وإن اعتراها الوهن والضعف.

 فما زال الكبارالذين اعتادواعلى الجريدة يوم كانت في أوج عزّها، لا يشفي فضولهم إلا ملمس ورق الصحيفة وتقليب صفحاتها كل يوم، وهم عينُ أولئك الذين يطلبونها على متن الطائرة ويقطعون بها طول أميال السماء، بينما تشغل شاشات الهواتف جلساءهم الشباب.

 نعم قد نقول إن الجيل الشاب، خاصة من وُلد في عصر الإنترنت، قد لا تعني له الجرائد شيئاً، ونعم، قد خرجت الصحافة المطبوعة من مضمار السبق الصحفي أو سرعة إيصال الخبر، لأن وسائل الإعلام الجديد اليوم تضع الخبر في كفّ المتلقي لحظة وقوعه، ولا حاجة به لانتظار صدور صحيفة الغد، ومع ذلك، فإني أرى أن أمام الصحافة المطبوعة فرصة كبرى في مجتمعاتها المحلية.
 

حين يرى القارئ أن ثمة صحيفة تطرح شأنه المحلي وتنقض ضفائر أحداثه وخفايا عُقده بالتحقيق الاستقصائي وتراقب ما يُقدم للسكان من خدمات حكومية وأهلية وتقدّم النقد المسؤول، فستنشأ بينه وبينها علاقة وثيقة

فعلى غرار محطات الأخبار المحلية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث لم تُفلح سطوة البث الشبكي على الإنترنت، ولا خدمات عرض المحتوى عند الطلب (Live Streaming) مثل نت فلكس (Netflex) و(HBO) وما ارتبط بها من أجهزة التلفاز الشبكي كأمازون فاير (Amazon Fire TV) وروكو (Roku) وأبل (Apple TV).. لم تفلح جميعها في إشباع حاجة السكان إلى مشاهدة قنوات التلفاز المحلية للاطلاع على أخبار مجتمعهم الصغير في المقاطعة أو البلدة، خاصةً أن كثيراً من هذه القنوات ما زالت تبث في الهواء (Free To Air) دون الحاجة لاشتراك ولا توصيل خدمة للمنزل، وتزود المشاهد بأخبار خاصة بالمجتمع المحدود الذي يعيش فيه قد لا تكون ذات أهمية للقنوات الوطنية الكبرى مثل (CNN وABC).

 فكذلك لا تزال أمام الصحافة المطبوعة فرصة للتركيزعلى مجتمعات محددة والبحث عن الأخبار النوعية المستقاة من مصادر الصحيفة، التي تُهم القارئ في تلك المجتمعات، خاصة ما يمسّ حياة السكان اليومية من قضايا معيشية، إذ يجب على الصحف أن تفهم أن الاستحواذ على القارئ لم يعُد بسرعة نشرالخبرالجديد، فسرعة برق الإنترنت، أخرجها من تلك المنافسة منذ مدّة، بل الاستحواذ على القارئ واهتمامه يأتي بطرح قضايا مهمّة للمجتمع المحلّي، ومتابعة أحداث سابقة بنشر أسبابها وتكييف تفاصيلها.

 حين يرى القارئ أن ثمة صحيفة تطرح دوماً شأنه المحلي، وتنقض ضفائر أحداثه وخفايا عُقده، بالتحقيق الاستقصائي الجريء، وتراقب ما يُقدم للسكان من خدمات حكومية وأهلية وتقدّم النقد المسؤول، فستنشأ بينه وبينها علاقة وثيقة، وسيُصبح طرحها حديث المجالس، بقوة المحلّية والمجتمعية التي انتهجتها الصحيفة.

 أما حين تكون الصحيفة ملخصاً لما حدث في اليوم الماضي من أحداث علم بها القارئ قبل أن يعلم بها الصحافي الذي كتبها، أو تكون لوحة علاقات عامّة لنشر أخبار الجهات الحكومية الروتينية، أو تكون أرشيفاً لتقارير تمجيدية طويلة لا تضيف لعلم القارئ شيئاً، فحينئذٍ يمكن أن نقول إن آخر روح لذات الأرواح السبع تحتضر، وأخشى أن ذلك يحدث الآن لكثير من الصحف في البلدان العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.