شعار قسم مدونات

"هل تحب القراءة"؟

blog قراءة 1

هل تحب القراءة؟ إذاً لا بد من أنك تثني زوايا الصفحات التي تود الرجوع إليها، وتخط أكثر الجمل تعبيراً عندك بقلم الرصاص أو الحبر، وتضع علامات لتعرف أين وصلت في قراءتك، تِلك التي تتنوع بحسب أقربها إليك، فاتورة شرائية، ورقة شجر ذابلة، بطاقة تهنئة قديمة، أو ورقة محارم مُعطرة برائحتك المُحببة.

ولن أقول إنك تضع العلامات المصنعة خصيصاً للكتب من قبل دور النشر التي تبتاع منها أو الأصدقاء الذين يتفننون في صناعتها لأجلك، لأنك ستسخدمها مرة أو مرتين وتنساها عائداً إلى أقرب الأشياء التي يمكنك أن تصنع منها علامة كتاب. إن القارىء الشغوف يهمه أن يعرف أين وصل دون الانتباه للوسيلة.

 

أثناء قراءتك للكتاب المستعمل تسكنك تفاصيل لا تتوفر للكتاب الجديد مثل دموع عواطف القراء الذين أمسكوه من قبلك والإهداءات على أول صفحة من الكتاب..

وأن تحب القراءة يعني انتقاء ما تقرؤه بعناية، وهذا الانتقاء قد يكون عبر ابتياع الكتاب الورقي من بسطات الكتب القديمة، تخيُّل القصة التي أتت بالكتاب من منضدة شاب مثقف إلى أرضٍ أكلها الغبار منتظراً أحد المارة لابتياعه، الأوراق المصفرة والممزقة قليلاً دون نقصٍ في الصفحات، العلامات الداكنة من أنامل غير نظيفة، لعلها بقايا من عمل نجار تلذذ به بين ترميم كل قطعة أثاث وأخرى، الرائحة العتيقة العالقة من أماكن سكنها الكتاب لبرهات من الزمن قبل وصوله للنجار.

رائحة لن تعرف إذا ما كانت رائحة رماد أم غبار أم عطر، هي أثير لا يُفسر بحاسة الشم، بل بالحاسة السادسة لدى قارئ بخيال واسع وأفق لا هوادة له، كلها تفاصيل ستسكنك أثناء قراءتك للكتاب المستعمل، بجانب حيثيات أخرى شبيهة بدموع عواطف القراء الذين أمسكوه من قبلك، والإهداءات على أول صفحة من الكتاب، أو التواريخ التي لن تعلم إذا ما كانت تاريخ شراء أم تاريخ قراءة أم تاريخ قصة حب أفناها الزمن.. لكن الكتاب الذي بيدكَ لم ينسها.
 

أو قد تبتاع مبتغاكَ من دار نشر معروفة، طبعة جديدة من كتاب قديم، غلافا أكثر متانة وحداثة، خطا أنيقا وأوراقا بيضاء، الصفحة الثانية مذيلة بالبريد الإلكتروني لدار النشر وموقع الكاتب على الشبكة العنكبوتية، وأخيراً غلافا بلاستيكيا لحفظ الكتاب من الغبار والانبعاج.. ستشتم في هذه الكتب رائحة الحبر والطباعة، وسيصدم عينيك البياض الناصع للصفحات، مما يشعركَ بأن الثقافة آلت إلى تجارة بالدرجة الأولى، أكثر من كونها روح أخرى تضيف إلى فكرك وعواطفك ما سلبه العالم منك.

وربما ستقرأ، لكنك لن تبتاع ولن تستعير، ستفضل خيار المطالعة الرقمية التي أججها ظهور جهاز الكاندل قبل ما يقارب عشرة أعوام، وبالتأكيد لديك أسبابك، منها وضعك الاقتصادي المحدود وعدم توفر الكتب التي ترغب بها في منطقتك، أو منع الرقابة من بيع الكتاب.

لن ألوم مُشتري الكتب الجديدة لأنه يشمئز من القديمة التي قد يجد بها حشرة محنطة، ولا القارئ الرقمي لأنه يفضل حمل جهاز الكاندل معه على الإمساك بكتاب في يده. لكنني أتجلى في كتب البسطات القديمة

أي أنك ستختار أيقونة تمكث أعلى الشاشة لتعرف أين وصلت بدلاً من العلامات التي تحدثتُ عنها آنفاً، وستقوم بتكبير الصفحة وتصغيرها كلما شئت، وقطعاً لن تثني ورقة غير موجودة، لهذا ستقوم بتصوير الشاشة لحفظ ما أعجبك في ألبوم صور هاتفك أو أي كان جهازك القابل للفناء في أية لحظة.

كلها خيارات تصنع فروقا طفيفة بين محبي القراءة، ولن ألوم مُشتري الكتب الجديدة لأنه يشمئز من القديمة التي قد يجد بها حشرة محنطة، والقارئ الرقمي لأنه يفضل حمل جهاز الكاندل معه على الإمساك بكتاب في يده.

 لكنني أتجلى في وجود زبائن بسطات الكتب الدائمين، البُسطاء، الباحثين أسفل الرفوف المتآكلة عما هو أعمق، وأقل ثمناً ربما، أولئك الراغبين برؤية عالم بأكمله بين دفتي كتاب، مستمتعين  بترك أثرهم في المساحات المتبقية لهم منه.. مخبرين القراء المستقبليين بأنهم كانوا هُنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.