شعار قسم مدونات

رابعة الحلبية.. المجزرة قديماً

blo - aleppo

ما زالت كثير من العائلات العربية في مدينة هانوفر الألمانية تذكر الدكتور عبد الرزاق عرعور الشاب الحلبي الخلوق الذي تفوق على أقرانه في دراسة الهندسة المدنية ورفض عروضاً متكررة من أساتذته للبقاء في الجامعة مدرساً، فقد فضّل العودة إلى وطنه الأم، وفعلاً عاد مدرساً في كلية الهندسة المدنية في حلب ليؤلف كتاب "مقاومة المواد" الذي يُعد مرجعاً في الهندسة إلى يومنا هذا وكان قد كتب في إهدائه: "إلى من ربياني صغيراً لأخدم وطني كبيراً".

في 11/8/1980 الذي يصادف أول أيام عيد الأضحى في الساعة الثانية ظهراً دهم منزله مجموعة من القوات الخاصة لينضم إلى العشرات من سكان الحي الذين اقتيدوا كقطيع من الماشية إلى مقبرة الحي، هناك اصطفوا إلى الجدار ليعطي الضابط أمراً بإطلاق النار، لكن أحدهم التفت صارخاً أنا بعثي وزوجتي علوية، أنا دكتور في الهندسة المدنية.. لكن شيئاً لم يشفع له طالما أنه أحد قاطني حي المشارقة الذي خرجت منه طلقة كادت أن تغتال ضابطاً.

حلب مدينة التناقضات المدهشة، مدينة الأعراق واللغات الخمس، كل المدن تنام إلا حلب تسهر بالقدود والموشحات كوريثة شرعية لحضارة أندلسية تأبى النسيان، هي أكبر المدن السورية، يرجع تاريخها إلى الألف العاشرة قبل الميلاد كأعرق مدن التاريخ.

حي المشارقة الذي كان يفصله عن المدينة القديمة محطة انطلاق الحافلات وسوق الخضار يرجع تاريخه إلى أواسط القرن الثامن عشر، بينما لا يزال الجدل قائما حول حلبية قاطنيه.
 

تفاصيل المجزرة
في أول أيام عيد الفطر 11/8/1980 عند الساعة الواحدة ظهراً حاول عنصران من الطليعة المقاتلة (الذراع المسلح لجماعة الإخوان المسلمين).. حاولا اغتيال ضابط في المخابرات العسكرية لكن محاولتهما فشلت ولاذا بالفرار على متن دراجة نارية.
 

دقائق قليلة ووصل العقيد هاشم معلا (من الطائفة العلوية) على رأس حشد غفير من القوات الخاصة، دخل مدرسة المأمون لدقيقة أو اثنتين وهو ما يكفي لإتمام اتصال هاتفي، ثم خرج متوعداً "الصهيونية العالمية" وعلى رأسها "جماعة الإخوان المسلمين".
 

أعطى أوامره لقادة المجموعات باقتياد كل الذكور على امتداد الشارع بين مقبرة "إبراهيم هنانو" ومحطة الوقود في آخر الشارع. وفي زمن قياسي اقتيد أكثر من 86 ما بين شيخ ورجل وطفل اقتيدوا دون أدنى فكرة إلى أين ولماذا، بل كان السؤال ممنوعا والهمس كذلك.

يقول أبو خالد مجدمي الناجي الوحيد: كنت أستعد لمغادرة المنزل لمعايدة أخي في حي بستان القصر قبل أن أسمع الباب يُدق بل يتأرجح لشدة الطرق، فتحت الباب ليقذفني عنصران إلى الشارع وأنضم إلى قافلة من المدنيين من سكان الحي. كان الذهول سيد الموقف، حاولت أن أسأل جاري أبو يوسف حوري عما يحدث فرد أحد العناصر بنهري بأخمص البندقية صارخاً: ممنوع الهمس.

صوت الرصاص القادم مع الشاحنات كان كفيلا بتحرير الجولان كما يتندر السوريون

كنت شبه متأكد أننا ماضون إلى التحقيق في أمر ما يتعلق بأصوات إطلاق النار الذي سمعته قبل قليل. وصلنا مدرسة المأمون، كان العقيد هاشم معلا على سطح المدرسة يتحدث عبر جهاز لاسلكي، وبعد أن أنهى المكالمة أعطى إشارة لتبدأ حفلة التعذيب. لم يسألونا سؤالا واحدا عن أسمائنا أو انتمائنا، بل كانت سياط الجلاد هي المُحاور الوحيد.

أُنهكت العناصر بعد ما أنهكت أجسادنا المتعبة، بينما العقيد الذي يستلذ بسحقنا كحشرات تحت قدميه لم يُفرغ كل ما في جعبته من حقد ليأمر مجموعة تجاوزت العشرة عناصر باقتيادنا إلى المقبرة مستقبلين الجدار، كان الالتفات ممنوعا كما الحركة والهمس.

إلا أن رجلا أربعينيا التفت صارخاً أقرب ما يكون إلى الشرح: أنا بعثي، زوجتي علوية، أنا دكتور في كلية الهندسة المدنية.. وربما لم يكمل عبارته حتى انهالت مئات الرصاصات على تلك الأجساد المتعبة. أفرغوا مخازن البنادق، ربما قتل 80% منا، أما أنا فأصبت في ساقي وزحفت بُعيد رحيل الجنود إلى شاحنة صغيرة، عندها اقتربت نساء الحي يندبن أزواجهن، لكن صوت الرصاص القادم مع الشاحنات كان أقوى، بل كان كفيلا بتحرير الجولان كما يتندر السوريون.

اقتلعت الجثث عبر جرافات كانت قد أعدت حفرة عميقة بالكاد استوعبت كل هؤلاء الضحايا، ومُنع الجميع من الاقتراب على مدار السنوات وربما إلى اليوم، ثم قال أخيرا: الإنسان في بلدنا رخيص.

لم تكن المجزرة الوحيدة في حلب
قبلها بشهر تقريبا في 13/7/1980 ارتكبت مجزرة سوق الأحد راح ضحيتها 192 مدنيا وبعدها بيوم في 12/7/1980 ارتكبت مجزرة بستان القصر وراح ضحيتها 35 بريئا، ثم مجزرة الكلاسة والقلعة لتبدأ سنوات الصمت وتنتصر جمهورية الخوف العربية السورية على شعبها.

كانت شهوراً دامية
امتدت من شهر أبريل 1980 إلى فبراير 1981، كانت الطليعة المقاتلة تتنقل بخفة بين الأهالي وتغتال أذرع النظام ورموز قبضته الحديدية، وكان المسؤولون يرتعدون خوفاً رغم الحراسة المكثفة من بعض عشرات أو مئات الشبان المندفعين معظمهم من طلبة الجامعات. ربما كان النظام يترنح أو ربما كنا نعتقد ذلك أو نوّد ذلك.

ما زال الدم لزجاً وما زال أبناء القتْلى يُمطَرون بالبراميل والصواريخ والقنابل المحرّمة دولياً وما زال ابن القاتل يتابع مسيرة أبيه

حلب مدينة مفعمة بالذاكرة التي لا تنسى ذلك الفتى الذي حاصرته القوات الخاصة فألقى نفسه في فرن ملتهب، لا تنسى مجازرها ولا تنسى أبناءها الذين صلبوا على جدران المقابر أو الذين سحلتهم الدبابات في ساحة سعد الله الجابري.. هؤلاء بشر كانوا في ريعان الشباب لديهم أحلام وطموحات ومستقبل وأمهاتٌ غدون ثكالى.


في صباح اليوم الثاني عنونت صحيفة الجماهير أن قوات الجيش قضت على عشرات من تنظيم الطليعة المقاتلة، وفي خبر آخر الطليعة المقاتلة تغتال الدكتور عبد الرزاق عرعور. بعد سنوات نُبشت المقبرة وتجمهر العديد من الناس ليشاهدوا جثثاً بثياب العيد. كانت الفضيحة مدوية، لكن صوت الخوف كان أعلى.

سويت المقبرة بالأرض ليبنى مسجدٌ يحمل اسم الجزار حافظ الأسد، ما زال المسجد شاهداً، وما زال الأذان حزيناً، وما زال الدم لزجاً، وما زال أبناء القتلى يمطَرون بالبراميل والصواريخ والقنابل المحرّمة دولياً، وما زال ابن القاتل يتابع مسيرة أبيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.