شعار قسم مدونات

عن مواقف المعارضة التركية ونظيراتها العربية

blog- FF
 
أشار صديقي كريم محمد في منشور كتبه على صفحته بموقع فيسبوك، إلى حالة "كره الذات" المستشرية عربياً، على خلفية المقارنات التعسفية التي عقدها الكثير من العرب بين مواقف حركات وأحزاب المعارضة في بلادهم وبين مواقف أطياف المعارضة التركية قبالة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا الذي وقع في الخامس عشر من يوليو/تموز ٢٠١٦.

وخطاب "انظر كيف العرب، وانظر كيف الأتراك" الذي أشار إليه صديقي في المنشور الذي كتبه يعكس عدم قدرة الكثير من العرب على إدراك اختلاف السياقات التي تجعل هذه المقارنات في غير مواضعها.

بعد كل انقلاب عسكري في تركيا، إن لم يُعدَم المئات من السياسيين، فإن حملات الاعتقال والمضايقة الأمنية تلاحق قطاعا عريضا من الناشطين السياسيين

كما هو معروف، لتركيا تاريخ ممتد مع الانقلابات العسكرية. وقعت أربعة انقلابات عسكرية ناجحة منذ عام ١٩٦٠. وقع الانقلاب الأولى في العام المذكور سابقاً على رئيس الوزراء عدنان مندريس بسبب سياسات حكومته فيما يخص موقع الدين في المجال العام التي رأتها المؤسسة العسكرية كتهديد يلوح في الأفق لمبادئ مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.

تدخل الجيش التركي بانقلاب عسكري في عام ١٩٧١ للسيطرة على البلاد بعد الإضرابات العمالية التي رأي الجنرالات أنها أدخلت البلاد في حالة من الفوضى مع تدهور الأوضاع الاقتصادية.

خلال عقد السبعينيات، بعد الانقلاب العسكري، تعاقب أحد عشر رئيساً للحكومة، في ظل استمرار الفوضى التي كانت تشهدها البلاد. جاء انقلاب عام ١٩٨٠ كمحاولة ثانية للقضاء على حالة الفوضى التي استمرت مع صدامات الجماعات شبه النظامية المنتمية لتيارات اليمين واليسار واستمرار اقتصاد البلاد في حالة الركود التي كان يعاني منها.

قام الجيش التركي بتعديل دستور الجمهورية لإحكام سيطرته على مقاليد السلطة. وأخيراً جاء انقلاب عام ١٩٩٧على حزب الرفاة الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان كتحرك عسكري مضاد لعملية إعادة موضعة الدين في المجال العام ربما لأسباب مماثلة لتحرك الجيش في عام ١٩٦٠ ضد مندريس. خلافاً للأسباب المباشرة للانقلابات السابق ذكرها، لهذه التحولات سياقاتها الاجتماعية – الاقتصادية/السياسية المركبة.

وبعد كل انقلاب من هذه الانقلابات، إن لم يُعدَم المئات من السياسيين، كانت حملات الاعتقالات والمضايقات الأمنية تلاحق قطاع عريض من الناشطين السياسيين. في عام ١٩٨٠ حُلت الأحزاب بما فيها حزب الشعب الجمهوري. بغض النظر عن مواقف قادة المعارضة الحاليين وقواعد الأحزاب المعارضة من حزب العدالة والتنمية الحاكم وعن رؤيتهم لجدوى الانقلاب، من المرجح أن زعماء المعارضة يعرفون تداعيات الانقلاب العسكري على الخريطة الحزبية وعلى الهياكل التنظيمية لأحزابهم. ربما إحدى التداعيات المحتملة للانقلاب إذا كان قد كُتب له النجاح، تغيير قيادات الصفوف الأولى والثانية بقيادات أخرى لضمان ولاءاتها للنظام الجديد.

لاشك أن أحزاب المعارضة التقليدية (وخاصة حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية) قد دخلوا خلال الأعوام الماضية في مساومات مع الحزب الحاكم. أو بمعنى آخر قد تكون القيادات المتوسطة والعليا لهذه الأحزاب بنظر المؤسسة العسكرية قد ارتضت ضمنياً الوضع القائم ولذا فأن تغييرها أو إزاحتها عن المشهد (سواء تم طرد القيادات أو وضعها تحت الإقامة الجبرية أو اعتقالها) شرطاً لإعادة ترتيب المشهد السياسي من خلال وجوه جديدة.

أما بالنسبة لحزب الشعوب الديموقراطي، فإن انقلاباً عسكرياً قد يعني بالنسبة لهم إطلاق يد الجيش في جنوب شرق تركيا ضد المسلحين الأكراد وقاعدتهم الشعبية بصورة أكبر. إلى جانب تداعيات الانقلاب على بناء النظام السياسي وآليات تداول السلطة، فإن تداعياتها المحتملة على الهياكل التنظيمية للأحزاب التقليدية وشبكات المصالح الموجودة ربما لم تكن خارج حسابات قادة المعارضة تماماً. وأما وفقاً لزملاء أتراك معارضين، فأن الاعتقاد السائد بين قطاع من صفوف المعارضة، هو أن الانقلاب مُدَبر، ولذا فرفض الأحزاب للانقلاب ربما كان منطقياً لو استنتج قادة المعارضة ذلك مبكراً.

في مقالته المُعنونة "الفوضى هي ما تصنع الدول منها: البناء الاجتماعي لسياسات القوة" التي يعتبرها الكثير المقالة التأسيسية لمدرسة البنائية التقليدية في العلاقات الدولية، يطرح الكساندر وندت مغايرة للمدرسة الواقعية في قراءة التفاعلات السياسية.

وفقاً لوندت، ترى الواقعية أن الأنا والآخر إذا التقيا للمرة الأولى فإنها سيتعاملان مع بعضهما تلقائياً بناء على أسوأ الاحتمالات لأن الخطأ قد يؤدي إلى الموت. ولكن وفقاً لوندت إذا اعتمدنا هذه الرؤية، لن يكون الاجتماع الإنساني ممكناً. بالنسبة لالكساندر وندت سيتوقف رد فعل الآخر على الأنا على عاملين.

العامل الأول يقوم على تقييم الآخر لإشارات الأنا وقدراتها الجسدية. العامل الثاني يقوم على تقييم كل طرف لإشارات الآخر. تحتمل عملية التقييم حدوث خطأ ولكن، وفقاً لوندت، ليس هناك سبباً لاعتبار الأنا تشكل تهديداً بشكل مسبق لأن عملية التأويل كفيلة بجعل الذات تدرك تكاليف واحتمالات الخطأ.

انتكاسات القوى الديمقراطية العربية الوليدة لا يمكن تجاوزها إلا من خلال المزيد من عمليات التعلم

عملية التأويل والتقييم هنا قائمة على فكرة التعلم ومراكمة الخبرات التي تسمح لكل طرف ببناء وتأطير الموقف اجتماعياً. وهنا قد يتصرف كل طرف تجاه ذات الموقف خلال فترتين زمنيتين بصورة مختلفة بناء على اختلاف الخبرات التي تمت مراكمتها والتي تدفع إلى تأطيرات اجتماعية مختلفة للحدث.

النقطة التي أرغب توضيحها هنا هي أن الأطراف السياسية في الداخل التركي، مع اختلاف دوافعها، اتخذت مواقفها بناءً على خبرات اجتماعية مركبة راكمتها خلال العقود الماضية. اعتماداً على هذه الخبرات قامت الأطراف السياسية بتحليل للتكلفة والفائدة (Cost-benefit analysis) في سيناريوهات رفضها أو دعمها للتحرك الانقلابي. وهذه الخبرات التي تعاملت على أساسها المعارضة التركية، والتي كانت خلاصة عقود من المنعطفات السياسية، لم تتوفر لدى القوى الديموقراطية العربية الوليدة حتى تدفعها إلى أتخاذ مواقف مماثلة لمواقف نظيراتها التركية مع اختلاف السياقات.

يظل تكوين الخبرات السياسية ملتصقاً بالجانب الشخصي والعملي الذي يتبلور وينضج أثناء الممارسة السياسية. ولذلك، فانتكاسات القوى الديموقراطية العربية الوليدة لا يمكن تجاوزها إلا من خلال المزيد من عمليات التعلم ومراكمة المزيد من الخبرات العملية من الأزمات. وحدها الأزمات هي التي تدفع الأطراف السياسية إلى تأطير الأحداث اجتماعيا بصورة أكثر نضجاً وبالتالي إلى أتخاذ قرارات أكثر نضجاً في اللحظات المفصلية، حتى ولو كانت جزءاً من دوافعها براغماتية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.