شعار قسم مدونات

رابعة.. هل تنفع الذكرى؟

blog الميدان

يقول المثل الإنجليزي لا تبك على اللبن المسكوب.. وأقول لو كان لبنا ما بكيته، بل لو كان ذهبا خالصا ما بكيته، ولكنها أرواح أزهقت دون وجه حق، إنه الإنسان الذي أهدرت قيمة حياته وكرامته، ولكن هل تحول الذكرى رابعة للطمية كربلائية، وهل تتحول ذكراها إلى سجن كبير يمنعنا من الانطلاق نحو المستقبل؟

لقد أهدتنا رابعة وأخواتها دروسا عظيمة يجب أن تعيها عقولونا وأرواحنا كي ننطلق من أسر اللحظة الماضية، فرغم أهمية الماضي الكبرى كلحظة تأسيسية للمستقبل، فإن العيش فيه فقط كارثة كبرى في ظل تغير المعطيات وعدم قدرتنا على إيقاف الزمن.

يكتب كثير من الذين حضروا رابعة عن إنسانها وروعة أخلاقه، وأنا هنا سأكتب عن قيادته التي أوردته تلك اللحظة، ليس من باب تحميل المسؤلية للمظلوم ولكنه دروس للمستقبل القريب إن شاء الله.
 

رابعة شاهدة على سذاجة تيار كامل وصل إلى هذه اللحظة دون وعي ودون القدرة على نقد الإجراءات والخيارات التي أوصلته إلى تلك اللحظة البائسة

في مثل هذه اللحظات كان هناك قهر شديد وصدمة عنيفة يجب أن نتجنبها مستقبلا، والقيادة بشكل أساسي يجب أن تضع خطا أحمر على تعرض مؤيديها لهذه الصدمات الهائلة والعنيفة.

إن القيادة التي تتعرض لهذا النوع من الصدمات تفقد الرشد اللازم لإدارة الصراع. وفي كتاب عقيدة الصدمة لنعومي كلاين وفي معرض حديثه عن تأثير الصدمات الكهربية على المرضى يقول: لاحظ الأطباء في العديد من الدراسات العيادية أنه في أعقاب العلاج بالصدمة الكهربية مباشرة أخذ المرضى يمصون أصابعهم ويتقوقعون على أنفسهم في وضعية الجنين وكانوا يبكون طالبين أمهاتهم.

ما حدث في رابعة شكل صدمة مشابهة للجميع، لمن حضر ومن استمع وشاهد، وأعاد كثيرين إلى وضعية الجنين السياسي تلك العقلية التي تنتظر المساعدة من جهة ما ولا تعتمد على نفسها في إيجاد حلول للوضع الذي وجدت نفسها فيه ودفعها خصمها إليه، وهو المصير الذي يجب أن تتجنبه أي قيادة ناضجة رشيدة.

إن القتال المتكافئ لا ينشىء هذه الصدمة، أما أن تكون واقعا تماما تحت سيطرة خصمك وفاقدا لأي قدرة على الفعل والمقاومة نظرا للاختلاف الهائل في موازين القوى فهذا أقرب للانتحار منه للمقاومة.
 

تظل رابعة رمزا لمجتمع فاضل نقي طاهر مستعد للتضحية بروحه من أجل مبادئه، وهي الخاصية التي تميز ثوار يناير بشكل عام. ولكن رابعة أيضا شاهدة على سذاجة تيار كامل وصل إلى هذه اللحظة دون وعي ودون القدرة على نقد الإجراءات والخيارات التي أوصلته إلى تلك اللحظة البائسة.
 

 إن الذي قتل الناس في رابعة ليس الخصم ومؤيدوه ومن فوضه بل هذه الأعداد الغفيرة التي سلمت رأيها ورأسها لقيادة لم تكن على القدر الكافي من الرشد والمسؤولية. إن حالة الثقة التي أولتها جماهير رابعة للقيادة كانت عجيبة وهي تسوقها للموت دون خطة واضحة.

وفي ظل الاختلال الهائل في موازين القوى يبدو السؤال هنا واضحا: كيف توقفت كل تلك الجماهير عن ممارسة تفكير نقدي لإجراءات واختيارات القيادة طوال عام كامل بالإضافة إلى مدة الاعتصام؟ إنني أتفهم حالة ما بعد الفض، حالة الصدمة، لكنني لا أتفهم أن تسير تلك الجماهير دون وعي منها، أن تسير للهلاك.

قادة الانقلاب العسكري المدني استخدموا خطاب رابعة الذي كان يتميز بالغضب والانفعال في زيادة حدة الانقسام الاجتماعي مما ساهم في عزل أهل رابعة عن المجتمع وتشويههم بشكل كبير

إن قوة الجماعات والتنظيمات تأتي من ممارسة التفكير الناقد باستمرا من قبل عدد غير قليل من أبنائها ومن التشاور الدائم وتوسيع قاعدة التشاور وتعوّد إبداء الرأي دون تردد أو خوف وإلجام شعور القيادة بالقوة والسيطرة بل والتصدي لهذه القيادة علنا إن كانت خياراتهم غير أخلاقية أو غير صحيحة من وجهة نظر الناقد، وهذا ما افتقدته تلك الجموع الغفيرة من البشر. وأرجوا من القارىء ألا يظن هنا أنني ألوم الضحية بقدر ما أؤسس للحظة مستقبلية، فالتدافع مستمر لم ينته بعد والدروس قابلة للتطبيق.

إن الجماعات الإصلاحية والثورية تعلم أن رأس مالها هو الجماهير وأن الحفاظ على هذه الجماهير من التعرض لانقسام حاد مهمة عظيمة من مهماتها، وكما أن خصوم الثورة يعرفون جيدا أهمية الانقسام المجتمعي في تحقيق سيطرة على الأوضاع، فالقيادة الرشيدة للجماعات والتنظيمات المعارضة للانقلاب يجب أن تدرك أن وحدة المجتمع خط أحمر يجب أن لا يخترق إطلاقا.
 

وهنا نستطيع أن نوجه نقدا جادا لسلوك القيادة في رابعة، إذ إن قادة الانقلاب العسكري المدني استخدموا خطاب رابعة الذي كان يتميز بالغضب والانفعال في زيادة حدة الانقسام الاجتماعي مما ساهم في عزل أهل رابعة عن المجتمع وتشويههم بشكل كبير. وقد كان من مسؤولية القيادة إنتاج خطاب تجميعي قيمي أخلاقي قادر على جعل المعادلة معادلة سلطة أمام شعب وليس شعب أمام شعب؛ تلك المعادلة التي حرص العسكر على إيجادها بعد ثورة يناير بين الثورة والمجتمع ونجحوا بها للتمهيد إلى هذه اللحظة.
 

ولا بد أن نؤكد أنه إن جاز أن تعبر الجماهير عن مشاعرها وغضبها فلا يجوز أن تستدرج القيادة لخطاب عاطفي يساهم في تهديد مصدر قوتها وهو النسيج الاجتماعي المتماسك الذي يحمي المجتمع من السقوط في هوة الرضى بالقتل والتهجير والتعذيب.

أخيرا دروس رابعة لا تنتهي، وجرحها سيظل ينزف حتى تتحقق أمنيات الذين ماتوا فيها من أجل إرادة الشعوب. لكن حتى ذلك الوقت لا بد أن تتحول تلك الدروس إلى عمل دؤوب وأمل كبير في غد أفضل إن شاء الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.