شعار قسم مدونات

عندما ذهبوا إلى رابعة

blogs - الكنيست

عندما ذهب الناس الى رابعة لم تكن هي الخطوة الأولى ولا الأخيرة، بل كان قد سبقها تفريط ممن وضعوا فيهم ثقتهم، وسبقتها ضياع فرص وارتخاء وتواكل، وتحسين ظن واستجابة لخطوات أرادها العدو وتعري من القوة.. لقد حاول الناس في رابعة أن يوقفوا الانهيار ويستدركوا ما فوته أرباب المسؤولية.. لكنه كان قد فات الكثير.
 

من ذهبوا إلى رابعة لم يدركوا ما احتوت عليه صدور الجنود ولم يعرفوا ما مُلئوا به، وأصبحوا يتساءلون عن اتساع الفارق حتى ساوى الخلاف العقدي، بينما كان الأمر من البداية كذلك، لكنهم لم يكونوا يعرفون! لقد صارت العلمانية دينا موازيا، وصار الفساد دينا آخر، واتسع الفارق كثيرا..
 

إلى الآن لا يعلم أهل رابعة ما قبع في صدر جندي يقنص شابا مصليا، أو شابة تتلو كتاب الله، أو طفلا صغيرا في حضن أبٍ على وجهه علامات السجود ومحبة الدين

إلى الآن لا يعلم أهل رابعة ما قبع في صدر جندي يقنص شابا مصليا، أو شابة تتلو كتاب الله، أو طفلا صغيرا في حضن أبٍ على وجهه علامات السجود ومحبة الدين.. ماذا صنعوا في عقول هؤلاء وأين تخرجوا؟ ومن خاطبهم؟ وماذا قال لهم؟ وكيف رأوا في هؤلاء الأطهار خطرا على (الوطن)؟!
يصعب عليهم معرفة هذا وكان يجب أن يعرف من قبل.
 

ومن لهيب رابعة تبين للناس أن عالما لو افتقد للتقوى لكان له جرأة إبليس وقسوة اليهود وكذِب الدجال، وأنه على استعداد أن يبيد أمة وأن يأتي بالأدلة أن إبادة المسلمين جائزة لا حرج فيها..!
 

أذاب لهيب رابعة مساحيق كثيرة، وطلاء كاذبا، وأحرق لحىً مدعية، وأبان عن وجوه شوهاء.

إلى الآن لم يدر أهل رابعة لماذا الإصرار على تدمير بلد وتجفيف منابعه والمراهنة باقتصاده وإذلال أهله وضياع أبنائه وإفساد تعليمه ومرافقه وتزوير الحقيقة وتشويه الخير وأهله وترويع الأمة من أخلص أبنائها وإلقائها في حضن الأفاعي الصهيونية!
 

والأشد أنهم لا يدرون الى الآن لماذا صدّق الناس هذا! ثم لا يدرون لماذا فرح الناس بمقتلهم وبأحزانهم رغم أنهم وقعوا في مذلة وخديعة، وأن قرار انقلابهم جاء من اسرائيل والغرب، وأن العداء هو للإسلام لا لأمر آخر؛ فكيف استجاب رواد المساجد وكيف سجدوا بصدور ممتلئة حقدا وعداء لشريعة من يسجدون له؟!
 

ذهب الناس إلى رابعة وقدموا أضعاف ما قدمه الأتراك في المحاولة الأخيرة، انتصر الأتراك حينما وجدوا أحدا بجانبهم لكن أهل رابعة وجدوا أنفسهم عراة وسط خضم بحر من العداء ومن الخذلان، كما افتقدوا لوعي القادة.
علم أهل رابعة وعلم الناس معهم أنه لا بناء ولا تنمية قبل أن تتوارى الذئاب.
 

ظن الناس في رابعة أن روح الثورة والشخصيات التي صنعتها مازالت موجودة وأن المصريين تغيروا الى الأبد وأن الشخصية القابلة للمذلة والمتشربة بالخضوع قد قتلها المصريون في يناير بلا عودة، وأن الجيل القادم لن يرضى بغير الوعي والحرية.. ولكنهم فوجئوا أن تلك الشخصية الذليلة الخاضعة القابلة لتغييب الوعي والمحبة للطاغية ما زالت موجودة ومتوارية خلف صياح الثوار، وأنها انقضت كالعقبان والبوم لتمزق للناس صبحهم الذي لاح لهم..
 

ظن الناس في رابعة أن الإسلام هو الدفين في النفوس وأن الناس تضع الوطن جزءا من الأمة وجزءً من الإسلام، وأنه لا تعارض بينهما وأن الدين هو الحامي للبلاد؛ ففوجئوا أن أمر العقيدة هين على حشود 30يونيو وأنهم صادموا بين الدين والوطن، وأنهم ـ فيما يزعمون ـ رأوا الدين خطرا على الوطن ففضلوا الوطن، ليهدموا الدين ثم يهدموا الوطن..
 

يحاول الجناة -ويظنون- أنه يمكن أن يتجاوزوا رابعة وأهلها بالزمان والأحداث، لكن أهل رابعة عقبة لن يمكن لحاكم أو قاضٍ أو قناص أو إعلامي أو شيخ أو قسيس أن يتجاوزها

لم يتصور الناس في رابعة أنه يمكن أن يحتوي أحد هدير الثوار في يناير الى الأبد وأن الروح دبّت ولا يمكن اقتلاعها، وأن الوعي لو غاب قليلا فسيعود سريعا، وأنهم يمكن أن يوضحوا لأمتهم موقفهم وحقيقة اختيار الانقلاب ودور العسكر منذ 52 وأن ثورة قامت على الوعي لا يمكن أن يستوعبها أحد في القمقم ويدخلها ثانية.. لكن صدّق العسكر ظنه على المصريين فاتبعوه..
 

ما تقدم شهيد بصدر عار ويد عارية، شبابا وكهولا وشابات، إلا وهو يرى أنه موجة ضمن موجات هادرة قادمة، وأن زخما ضخما من إخوانه وشعبه وأمته سيأتون خلفه ليحققوا هدفه ويقيموا الراية التي مات وهي في يده.. ولم يتصور شهيد ولا أسير، ولا مصاب أٌقعد وتغيرت حياته، ولم تتصور أُسر هؤلاء جميعا، أن سيضيع الدم والألم والأسْر بين اللائحة والمكاتب! والخارج والداخل! وأن أسماء ستتركهم في الميدان وتدافع عن كراسيها ووظائفها ولوائحها.. في عارٍ ـ لو استمر ـ لن تغسله مياه البحور ولا تعاقب الأيام والليالي ولا مر الدهور.
 

يحاول الجناة -ويظنون- أنه يمكن أن يتجاوزوا رابعة وأهلها بالزمان والأحداث، لكن أهل رابعة عقبة لن يمكن لحاكم أو قاضٍ أو قناص أو إعلامي أو شيخ أو قسيس أن يتجاوزها.
قديما قال السلف لا تنخدعوا بصمت القبور، وحديثا لا تنخدعوا بصمت رابعة؛ فصرخاتهم وأنينهم، وشكواهم ودعاؤهم، ودماؤهم وأرواحهم.. قد شقت حجب السماء، وستأتي إجابتها، والكل منتظرٌ ذلك الحين..

وعندما يحين أخشى ألا ينفع الندم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.