شعار قسم مدونات

هنا نحن..

blog الجزيرة

منذ زمن ليس بالبعيد ولا القريب.. كانت أيدي أجدادنا تلاعب تلك القطعة الأسطوانية الشكل في ذلك الصندوق الخشبي لكي توقف رعشة تلك الأمواج حيث لا رعشة لأيديهم حينها على الإذاعة، وكانوا ينزعون أيدهم عن ذلك الخشبي عندما تنسل لمسامعهم كلمتان لا ثالث لهما "هنا لندن"، كي يستمعوا لحالهم وما يجري في بلادهم وما يدور من دوائر في رحاهم.
 

أعيننا وآذاننا لم تعد تحتمل من الأكاذيب والمديح المفرط لأصحاب السمو والمعالي والسيادة لا لشيء أنجزوه ولكن كان لسان حال المادحين -كما المشركين- يقول "ليقربونا إلى الله زلفى"

مضت الأيام وهم على تلك الحالة إلى أن جاءت موجة تحمل في طياتها عنوانا يحملهم إلى فضاء العالم الخارجي، الذي يقع خارج مساحة 13333296 كيلومتر مربع، تلك الموجة كانت تحمل عنوان "صوت العرب"، فكانت أيديهم تنتزع أيضا عند سماعهم كلمتين اثنتين لا ثالث لهما "هنا القاهرة".
 

بقوا على هذا الحال إلى أن جاءت تلك اللحظة التي كسبنا فيها حرب الأيام الستة التي دارت رحاها بيننا وبين اليهود، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها التي سمعناها من صوتنا صوت العرب خرجنا لنرى فوزنا ونتقاسم غنائمنا ونلعب في أراضينا دون خوف أو وجل، ولكن عند خروجنا كانت الصدمة وكانت الحقيقة التي لا ينكرها إلا كل مفتر أثيم، فطائراتهم التي قصفت كانت طائراتنا، والأراضي التي أرجعت كانت أراض منا جديدة قد سلبت، وقتلاهم كانوا قتلانا وأسراهم أسرانا. 

حينها فقط اكتشفنا أن فوزنا في تلك الحرب كان لا يتعدى حدود ذلك الخشبي الصغير، وأن حدودنا نحن استؤصلت وحدودهم هم امتدت وصوتنا نحن "صوت العرب" بهت وانخفض وأصواتهم هم علت حتى أصبحت دويا يزعجنا إلى هذا اليوم. بعد ذلك تاه الناس وأغلقت آذانهم برغم التطور الذي وصل إليه العالم ودخول العرب العالم المرئي، لكن أعيننا وذاننا لم تعد تحتمل من الأكاذيب والمديح المفرط لأصحاب السمو والمعالي والسيادة الذي لا لشيء أنجزوه ولكن كان لسان حال المادحين -كما المشركين- يقول "ليقربونا إلى الله زلفى".

حتى جاء ذلك اليوم الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1996 عندها صدح صوت مليء بالحب والقوة، بالحق الذي لا مواربة فيه وقال "ربي اشرح لي صدري".. كان ذلك الصوت الخارج من التلفاز صوت الجزيرة.

أذكر يومها أني لم أكمل الثانية عشرة من عمري، يومها كان خالي قد دعانا لبيته فقال لأمي تعالي لتنظري معي قناة أخبار جديدة يقولون عنها إنها ليست تابعة لأي حكومة عربية. لم أكترث كثيرا بهذا الحوار حينها، لكني أتذكر أني جلست وتابعت مع الجالسين، ومضيت ألعب مع أقراني.
 

ها هي الجزيرة تفتح بابا جديدا للناس ليعبّروا عما يلوح في خواطرهم دون قيد أو شرط إلا شرط واحد يقول تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين

لكن بعدها كبرت وكبرت تلك القناة فكنت أشاهدها بين حين وآخر إلى أن اشتد عودي وتفتحت براعمي وأدركت حينها أن هذه الجزيرة كجزيرة النخيل، فالنخل في كل مراحله مفيد ثمره لا يضر الناس.

وصرت عندما التقي بشخص أسأله متعمدا ما القناة التي تتربع على عرش قنواتك في البيت؟ فإذا أجاب الجزيرة أعرف أنه قابل للحوار والنقاش، وأما إذا قال غيرها أعلم أن عينه ضاقت بحزبه فلا أجهد نفسي بنقاشه، وهذا لا يعني أن كل من أعتلت الجزيرة عرش قنواتهم يحملون نفس الرأي، لكنهم دون شك قابلين للرأي والرأي الأخر.

والآن ها هي الجزيرة تفتح بابا جديدا للناس ليعبروا عما يلوح في خواطرهم دون قيد أو شرط إلا شرط واحد يقول تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين، فالجزيرة عندي كما أسلفت كشجرة النخيل تأبى إلا أن يستفاد منها في كل مراحلها حتى إنها تستدرك ذلك الغصن أذا سقط من عليها وتحفه وتصنعه، قلما تضعه بين أيدينا لنخط به كلمات منعنا منها في أزمة العرب منذ عام 1916.

ولأنها منذ أن بدأت لا تعترف بحدود المكان، فصوت الحق وكلمته لا حدود له في كتاب الجزيرة، نأت بنفسها أن تحصر صوتها كما فعل سابقوها، فلم تقل هنا الدوحة. وجاءت هذه المدونة لنقول من على رفوفها هنا نحن.. نحن الشاهدون على حالنا أمام أنفسنا وأمام أجيال تأتي من بعدنا علهم لا يضيعون البوصلة التي ضاعت من معظمنا في زحمة القتل وأزمة النسيان والتناسي. 
فالحمد لله على نعمة الجزيرة ثم الحمد لله أنني من جيلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.