شعار قسم مدونات

سرد التدوين

blogs - c

التدوين سردٌ للرأي أم صنعٌ له؟ يُشبه هذا التساؤل تساؤلا آخر عن كينونة الحقيقة، يتراءى من ذلك الاستفهام جهدُ الإنسان ومداه في البحث عن الصواب والخطأ وتموضعه بينهما.

كيف يُفرّق صاحب القلم بين أن يبوح برأيه هو وبين أن يبوح برأي، ففي اﻷولى سيكون الحبرُ غاية، وفي الثانية -على اﻷقل- يُعكّر صفوَ المِداد شُبهة الوسيلة، فهناك فرقٌ بين أن يكتب المرء على ورقة بيضاء وبين أن يلوّنها بالكلام، يخطُّ ويمسح ويعدّل.
 

قد يكتفي المُدوّن بسرد خواطره، وربما هواجسه، وفي هذه الحالة هو على جانبٍ كبيرٍ من القوة بعكس ما قد يظنه القارئ من ضعف في التدوينة وفي كاتبها، ﻷن المُدوّن في تلك الحالة يكون قد تكفّلَ عناء الاستقصاء لرأيه وأغنى القارئ عن ذلك العناء.

كلما سارع أصحاب الحقيقة والكلمة لشغل المساحات في الساحات الجديدة ضيّقوا المكان الجديد على أصحاب القيود والحدود

وأما إن تكلّف المدون الرأي وغلفه، وبطّنه، وضمّ في ثناياه خطة توجيه نحو تشكيل وعي أو رأي معين وحملَ القارئ على تقلُّدِ فكرة، فذلك هو الخروج عن قيمة السرد. وبالتالي ما حاولتِ المدونات تقديمه من فكٍ لحصار القيود واجتراحٍ لفضاءات الحرية التعبيرية سيعود بها المدون -بقصد أو غير قصد- أدراج الوراء، حيث محطات تفتيش الكلمات، وتقصّي الدلالات، وربما تراجعَ أكثر، حيث العبث الرقابي بمضامينها، والتوجيه المقصود بخطوطها ومآلاتها، وذلك في نهاية المطاف ضعفٌ في (التدوينة).
 

فرغم وجود متراجحات عاكست المنطق ومالت باتجاه الانتصار على قوة الكلمة في واقعنا ووقائعنا، نظراً لما يعانيه الحال العربي من فرض معادلات تُحقق الفوز حتى على الإنسان بكلّه، فإن الفُرص يجب أن لا تفوّت، وكلما سارع أصحاب الحقيقة والكلمة لشغل المساحات في الساحات الجديدة ضيّقوا المكان الجديد على أصحاب القيود والحدود؛ الذين لا يألون جهداً هم أيضاً في مثلِ هذه السباقات.
 

على أن يُجاهد المُدونُ ذلك المراقب السلبي الذاتي الذي قد يندس فيه ليدخل معه الفضاء الجديد، فالبعض لا يُدرك أن القيود على الفكر قد أصبحت عالماً مُظلماً يستوطِنهُ، غير منتبهٍ أنه لا يزال للكلمة بصيصٌ من نورٍ يستطيع أن ينفخ فيه فيتقد من جديد كاشفاً ذلك العالم المظلم الذي هو في وسطه أو الذي يحمله في داخله.
 

يجب أن تكون المدونات، لتتناغم مع نبض البحث مُنصفة للواقع، تسوق أقوال الأمس نحو أفعال الغد

لطالما اصطدمت الحقيقة بالتحقيق، في معركة عربية، غير مضمونة النتائج، ناهيك عن ضمان المُنقلبات، ولكن ذلك لا يعني التنازل عن سلاح القلم، أو أن يُستبدل بمروحة أسلحة تتراوح ما بين الصمت أو التطرف، بل لا بد للحروف أن تستمر بصياغة عبارات الرأي والفكر.

ولا بد أن تبقى الكلمات أميل لطلب الحقيقة أكثر من انتصارها لفرضها، فشتّان ما بين البحث والفرض، فالبحث لا يقبل المساومات ولو تقلّب على جمر الانتظار، بينما الفرض يتنعّم على طاولات العرض والطلب، على ذلك يجب أن تكون المدونات، لتتناغم مع نبض البحث، مُنصفة للواقع، تسوق أقوال الأمس نحو أفعال الغد.
 

ليكن التدوين جدولاً يسيراً من العفوية يسيرُ مع الحرية أفضل من أن يكون نهراً عظيماً من التكلّف يقبع خلف السدود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.