شعار قسم مدونات

لا تكره يا زيد

blogs son

ابني زيد، أكتب إليك هذه الكلمات، وأنت تدخل عامك العاشر. 
لقد تغيرتُ، أنا أباك، منذ ولادتك العزيزة حتى اليوم، وتغيرتَ أنت.. كنا نكبر معًا، الأب والابن، بنفس الدرجة.

عندما كنتُ أنا في العاشرة، وهو عمرك الآن، دخلت مدرسة قرب بيت جدي في بغداد، كنت أمشي ثلث ساعة للوصول إليها، مرة في الحر، ومرة في بارد قارس، لم يكن يوصلنا أحد، ومما أتذكره يوم كنت في عمرك، أنه في يوم 8/8/88، قبل أقل من ثلاثين عاما، انتهت الحرب بيننا وبين دولة جارة أسمها إيران، هذا الرقم " 8 " أصبح مشهورا جدا عندنا في العراق، حتى هذه الحرب استمرت 8 سنوات!! تخيل، نفس الرقم.

هذا اليوم هو أكثر يوم أتذكره يوم كنت بعمرك، لأن شعبنا وأهلنا وجيراننا كانوا يعبرون عن فرح انتهاء هذه الحرب، كنت أرى الفرح في عيون الكبار، وربما لا أعرف أين تقع إيران أصلًا.

مدارسنا كانت الدراسة الحقيقية تبدأ من الخامس، فنقرأ الإنكليزي، وتختلف العلوم، ونُمتحَن مثل الكبار

ليس مهمًّا أن تعرف الكثير عن تلك الأيام. نحن بدورنا، كأطفال، نتجمع ونرشُّ على كل السيارات الماء، كانت تلك لعبتنا في ذلك اليوم، هل تريد أن تضحك يا زيد؟ كانت امرأة تقود سيارة، هي في منطقتنا، وقد فتحت زجاج السيارة، وكلنا – وأنا منهم- سقعناها بلترات من الماء، فابتلَّت، وكادت أن تصدم السيارة، فلم تكن تجيد القيادة، لم يكن هناك الكثير مثلها يقدن سيارات في ذلك الوقت ببغداد. كان موقفًا ممتعًا جدًّا، والآن بدأت أفهم أنه موقف سيئ جدًّا، فأنا وأنت يا حبيبي عندما نكبر، سنعرف أن الكثير من الأشياء كنا نفرح بها، ثم يظهر أننا كنا على خطأ.

أفضل عام أتذكره في مدينتنا كان عام 89، بعد الحرب بسنة، ربما هذا آخر عام، أو هو العام الوحيد من عمري، الذي كان أثر الفرح يظهر فيه على وجوه الناس.

أنت تعرف أن دخول الخامس الابتدائي مختلف تمامًا، في مدارسنا كانت الدراسة الحقيقية تبدأ من الخامس، فنقرأ الإنكليزي، وتختلف العلوم، ونُمتحَن مثل الكبار، بامتحانات يسمونها تحريرية. بعد سنوات من هذا التاريخ، بدأت أنسى أسماء الأساتذة في المتوسطة والإعدادية والكلية، لكن لا أنسى يا حبيبي معلمات الابتدائية، لا أعرف إن كنت ستكون مثلي، لكن ومنذ الصف الأول، فأنا لا أنسى الست بدور، ولا الست ابتسام، ولا الست أمل، لا أنسى الأستاذة الجميلة وجدان، وكيف أنسى ست ماري!! المسيحية الحبيبة، التي علَّمتنا الرياضيات والنظافة في نفس الوقت، وأستاذة لنا في الإنكليزي كانت تضربنا، هي تريدنا أن نتعلم، ولكننا لم نتعلم ونتأسس بشكل صحيح.

في ذلك العام، لم تكن هناك حروب، لم أعرف بعد أي شيء عن الموت، أنت تسمع بالموت كثيرًا هذه الأيام، ولقد مات من أعمامك وأبناء عمك وأخوال أبيك، الكثير في هذه السنوات بسبب أخطاء كثيرة تجري في بلدنا، قد يكون من الصعب جدا شرحها لك الآن، وحين تكبر لا أعرف كيف ستفسرها، وكيف سيفسرها من هم في عمرك، بل كيف سيحكمون علينا يومها، لأننا نعيش أحد أسوأ لحظات تاريخ بلدنا، صحيح أننا لم نكن طرفا في كل ما حصل، لكننا جميعا ندفع الثمن يا زيد، وأنت ومن هم في عمرك، ربما سيتمتعون بالسلام، بعد أن أنهك جيلنا الحروب.

لم أكن أصلّي عندما كنت بعمرك، أتذكر ذهابي إلى دورة تحفيظ القرآن في الجامع، في جانب الكرخ من بغداد، وتحديدا غرب بغداد

حبيبي زيد، لقد علمتني الحياة أشياء كثيرة، كان في صفي في ذلك الوقت الكثير من "الشطار" درجاتهم كاملة، كنتُ أفضل منهم فقط في لعبة كرة القدم، لا غير، ولكن بعد مرور عشرين عامًا وأكثر، كثير من الشطار أصبحوا فاشلين في الحياة، وكثير من "الفاشلين" في الدراسة في الابتدائي أصبحوا ناجحين جدًّا. تعرف لماذا يا ولدي؟ لأن الحياة شيء مستمر، وأن أسهل شيء في الحياة أن تكون فاشلًا! في أي سنة من السنوات القادمة، إذا قررت أن تكون إنسانًا غير جيد، سيكون هذا سهلًا جدًّا، فقط لا تهتم بوقتك، ولا تحترم الناس، ولا تجتهد في العلم، ستكون فاشلًا!.

وفي أي وقت من الحياة، تقرر أن تكون ناجحًا، سيكون الأمر صعبًا جدًّا؛ لأن الفشل يمكن أن يكون في يوم واحد، لكن النجاح يكون في سنوات طويلة من العمل والاجتهاد. هل علمت الآن لماذا هناك قليل جدًّا من الناس ينجحون، والكثير يفشلون، أنت سوف تستمر، لأني وأمك نريد منك أن تنجح، لذلك لابد أن تستمر، أليس كذلك؟.

لم أكن أصلّي عندما كنت بعمرك، أتذكر ذهابي إلى دورة تحفيظ القرآن في الجامع، في جانب الكرخ من بغداد، وتحديدا غرب بغداد، أذهب لدروس التحفيظ بعد أن أشاهد كرندايزر، وكرندايز "مسلسلات كارتونية" كنا نشاهدها ونحبها جدًّا، مثلما تشهد أنت سبونج بوب وتلي تبيس والبي بليد، وتعلمت القليل جدًّا في هذه الدورات عن الإسلام، حفظت بعض السور من جزء عمَّ: الإخلاص، والناس، والكوثر، وعلموني الفاتحة أكثر، ثم ذهبنا إلى النبأ، وكانت النازعات صعبة، وعبس صعبة، لم أحفظها، لكني تعلمت كيف تقرأ.

لأول مرة يقرر جدي سليمان رحمه الله أن يأخذني في صلاة جمعة إلى جامع أم الطبول، كان يومًا سعيدًا جدًّا، لم أكن أعرف أننا يجب أن نتوضأ قبل الصلاة، علَّمني جدي ذلك هناك، لا أعرف لماذا أخذني أصلًا في ذلك اليوم، لكن على ما أتذكَّر، فإن الأمر لم يتكرر في مرة أخرى، وهي أول مرة أشاهد فيها جامعًا كبيرًا وجميلًا هكذا.

عندما تدخل العاشرة، يجب أن تحافظ على أداء الصلاة يا حبيبي؛ لأنها الشيء الوحيد الذي سيبقى معك إن شاء الله، في كل هذه الحياة، يوميًّا وبلا تأجيل.

الصلاة يا زيد أهم من أبيك، ومن أمك، ومن كل الناس؛ لأنها حق الله عليك، الذي أعطاك السمع والبصر والقلب، وجعلك تمشي، وجعلك محبوبًا.

كل عام وأنت بخير، وفي العام المقبل، سوف أقول لك ماذا حصل بعد سنة 1990!! إن أبقانا الله، أو إذا أردت، يمكن أن أحدثك عن ثلاثة عشر عامًا بعدها!! في كل يوم سنة، في يوم واحد أحدثك عن عام كامل، هل ستعطيني أسبوعين، حتى نصل إلى أهم سنة في بلدنا منذ مائة عام؟.

نعم يا زيد عام ٢٠٠٣ هو أهم عام على الإطلاق منذ مائة عام لبلدنا أو أكثر بكثير! هل تريد القصة؟ حتى لو قلتها لك، أخاف أن تكون حزينة، لكن ولأنه بلدك، لا بد أن يقول أبوك ماذا حدث، وكيف أصبحنا بسبب المشاكل. وتذكَّرْ أن السنوات الثلاث القادمة من حياتك، إن شاء الله، هي أجمل سنوات حياتك، وإني أحبك، أحبك، أحبك!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.