شعار قسم مدونات

في حضرة الذكرى.. لم تكن صفقة خاسرة

blog - waleed

 

من قريب المستحيل أن يمر الرابع عشر من أغسطس/آب على من شهدوا مذابحة في مصر دون أن يتوقف تيار مشاعرهم وذكرياتهم عند تلك اللحظات المروّعة.

ستحاول سطور هذه التدوينة الجمع بين مشاهداتي الشخصية في ذلك اليوم وبين ملاحظات أراها مهمة في حضرة الذكرى الثالثة.

انقلبت حياتي الشخصية كثيرا في رابعة مع الانقلاب وما تلاه.. كنت شاهدا على الاعتصام من لحظاته الأولى في الثامن والعشرين من يونيو/حزيران، لكن صلتي به اتخذت شكلا مختلفا حين كُلّفت بالتغطية مراسلا للجزيرة بدءا من الحادي عشر من يوليو/تموز.
 

كانت تجربتي الميدانيةَ الأولى مهنيا، وحوّلَتْ فيما بعد مسارَ عملي في الجزيرة بالكامل، إلا أنني لم أشعر حينها بصعوبة الفصل بين الإنساني والصحفي، كان التحدي حينها أمنيا فقط ولم يكن أخلاقيا لحسن الحظ.
 

لم أكن في مثل هذا اليوم برابعة على كُرهٍ منّي، ولكن أسبابا مهنية ثم إنسانية فيما بعد هيّأها الله لأشهد على زوايا دامية أخرى لم تحظ بالكثير من الاهتمام.

 كنت شاهدا في فض ميدان النهضة على ذلك الصوت البغيض الذي كان يخرج من مدرعات الشرطة، ويدعو الناس إلى المخرج الآمن عبر ميدان الجيزة، وحين أطاعه المئات انهمرت عليهم قنابل الغاز من قوات الشرطة فوق الجسر!

الساعات الأخيرة من ذلك اليوم الكئيب كانت بالنسبة لي سباحة مؤلمة بين ضفتي الواجب المهني والإنساني، فقد ارتفع عدد أصدقائي الذين جاءني عبر الهاتف خبر استشهادهم واحدا تلو الآخر!

 

كنت شاهدا أيضا على أن معتصمي النهضة (رغم سرعة فض الميدان في ساعتين تقريبا) توجّه معظمهم إلى ميدان مصطفى محمود بالمهندسين وأعلنوا على عجل اعتصاما جديدا جاءتني أنباؤه وأنا أغطي نهايات أحداث النهضة.
بصعوبة بالغة دخلت ميدان مصطفى محمود تحت وابل الرصاص الذي كان يقرع جدران البنايات العالية من فوقنا.
 

في المستشفى الميداني بالمسجد كان الوضع بالغ البؤس.. عشرات الجثث تدخل وتخرج، تحت الرصاص الذي استهدف المستشفى بشكل مباشر عدة مرات، كانت الأنباء المفزعة تأتينا من رابعة تباعا، وأعلنت في البلاد حالة الطوارئ وحظر التجول بدءا من السابعة مساء.
 

كانت الساعات الأخيرة من ذلك اليوم الكئيب بالنسبة لي سباحة مؤلمة بين ضفتي الواجب المهني والإنساني.. فقد ارتفع عدد أصدقائي الذين جاءني عبر الهاتف خبر استشهادهم واحدا تلو الآخر!
 

عند الغروب تركت ميدان مصطفى محمود الذي فُض اعتصامه لاحقا إلى أحد المستشفيات التي سيخرج منها اثنان من أصدقائي الشهداء، لا توجد سيارات نقل موتى في القاهرة تقريبا بسبب كثرة الضحايا. بصعوبة بالغة جاءتنا سيارة ولكن دون صندوق! بل بلوح خشبي فقط وضعنا عليه جثمان أحد الفقيدين حتى بلغنا مسرح الموت الأكبر (مشرحة زينهم).
 

ذلك المكان الذي اشتهر إعلاميا فيما بعد على وقع تتابع مذابح الانقلاب، لكنه كان في تلك الليلة السوداء بشوارعه المحيطة كلها نهرا من الجثث دون أي مبالغة.. على الأرصفة.. في السيارات.. في كل مكان.
 

غطيت للجزيرة مرتين عبر الهاتف من أمام المشرحة وأنا لا أجد كلمات تصف هول المشهد.. لم أكن أعلم أن نسخة أخرى بشعة (وربما نُسخٌ) تتكرر في أماكن أخرى، أبرزها مسجد الإيمان القريب من ميدان رابعة الذبيح، لهذا أصدّق تجاوُز عدد من سقطوا ذلك اليوم حاجز الألف بكثير نظرا لمواجهات باقي المحافظات، وباعتبار من تم جرف جثثهم إلى حيث لا يعلم أحد كما نقلت الصور، وباعتبار الجثث المجهولة التي نقلت الصور لاحقا أيضا دفنهم في مقابر المجهولين بالقاهرة.
 

بين المستشفى والمشرحة وخلال الساعات الأولى من حظر التجوّل تكشّفت أمامي معالم صفقة تسليم أمن البلاد لعصابات البلطجية بالمعنى الحرفي.. مراهقون وبالغون مجهولون يتحكمون على مفارق الطرق في من يمرّ أو لا يمرّ.. كانت معالم العهد الجديد تتشكل بسرعة كبيرة، ولم يكن استشراف النهايات البائسة يحتاج لفرط ذكاء، ولا لمرور ثلاث سنوات.

المهم برأيي ألا تفقد جمهرة الثائرين من أجل الحرية ثقتها بنفسها أو بكفاحها لكثرة من سقطوا من رفاق الطريق

سأترك تفاصيل الأيام التالية فالكل يعلمها، وشهادتي على ما كان في حصار مسجد الفتح بعد الفض بيومين مسجلة وحاضرة، وهنا سأستبدل بقلم الصحفي قلم الإنسان المصري الذي شارك ملايين من مواطنيه وبني جيله حلم الحرية ثم رآه يذبح على هذا النحو.
 

لاحظت في الذكرى الثالثة للمذبحة تململ كثيرين من فكرة الاكتفاء ببث البكائيات وتغيير صور الصفحات الشخصية بشعارات لا تفعل سنويا سوى تغيير رقم الذكرى.. هذا مفيد من باب إحياء قضية عادلة يتجاهلها السياق العام للوطن وحاكميه المتورطين في الدم ويراهنون على النسيان.. مفيد في حصار القاتل أخلاقيا وإنسانيا، وتذكيره أنه غير ناج بفعلته، لكن الاقتصار على ذلك ملهاة تستحق الرثاء دون ريب.
 

في جعبة الثوار في مصر الكثير مما يمكن المراهنة عليه بعيدا عن البكائيات غير المجدية سواء على المستوى الوجداني والفكري أو العملي الميداني، ما ألاحظه أن طول الأمد فعل فعله السلبي في معنويات الكثيرين وعزائمهم، وربما أفكارهم، وفي سياق الأفكار تحديدا هناك عبث ليس وليد اليوم قد لا يتسع له المقام هنا.
 

إلا أن أهم وفاء عملي أعتقده لرابعة وذكراها يتمثل في التأكد من أن الكلفة لم تكن باهظة ولا صفقة خاسرة بالنظر للنتائج المرجوة، حتى وإن لم تتحقق حتى الآن، البعض من راغبي الحرية لوطن بحجم مصر يرى فيما وقع سوءَ تخطيط أو انتحارا عبثيا كان يمكن تجنبه، ولست هنا في سياق الدفاع عن عجز تخطيطي لأي طرف، وإنما المهم برأيي ألا تفقد جمهرة الثائرين من أجل الحرية ثقتها بنفسها أو بكفاحها لكثرة من سقطوا من رفاق الطريق.
 

ليس جديدا أن نؤكد أن للحرية ضريبة وثمنا يتناسب طرديا مع الهدف المرجوّ، والهدف هنا استعادة حجر الزاوية في بلاد المشرق، وهو بالنظر لمعطيات السياسة الإقليمية والدولية الظاهرة ليس بالسهل ولا بالمستحيل في الوقت عينه.
 

امتحان الثورة له معايير خاصة للنجاح، ليس منها سلامة الأجساد والأرواح، لكن من أهمها وضوح الهدف والثبات عليه وتمام الثقة في القدرة على تحقيقه، وعدم الانزلاق التدريجي وراء المثبطات والملهيات.. باختصار تقديم الهدف على الروح فما دونها.
 

يحاول البعض أن يفسر تراجع المدّ الثوري الآن في مصر باستمرار القبضة الأمنية والملاحقات وأحكام الإعدام والمؤبد، وأودّ هنا التذكير على هامش ذكرى الأيام الدامية من أغسطس/آب أن الثوار المصريين عاودوا النزول بكثافة وبسالة حتى قبل الفراغ من دفن كل ضحاياهم في رابعة والنهضة، شهد على ذلك ميدان رمسيس وغيره في محافظات لم تحظ بتسليط الضوء المناسب.
 

كما لم تمنع دماء السادس عشر من أغسطس ولا مجزرة سيارة الترحيلات في اليوم التالي أن تشهد الشوارع المصرية في الأسابيع والشهور التالية زخما يتحسر الثوار على ذكرياته حتى الآن، هناك مثبطات كثيرة لعبت دورا سيئا في إخماد روح الحراك الثائر، لكنها لم تقتله بالكامل حتى الآن، وهو وإن بدا الآن في أضعف حالاته، لكن بقاءه حيا برأيي يؤكد أن تحت رماد الحالة المصرية البائسة وميض ثورة قابل للوهج مجددا، ولكن بشروط قد أتطرق لبعضها في مدونات مقبلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.