شعار قسم مدونات

الرافعة

blogs - qura

يطول الحديث عن أسباب تقهقرنا بعد ريادة وتخلفنا بعد سيادة، لكني سأحاول شرح سبب موضوعي رئيس: هجرِ لغتنا الأم التي عقّها أبناؤها فأمسوا يخجلون بها يتمدّحون غيرها جاهدين في تعلم اللغات الأجنبية غيرَ عابئين بلغة كوّنت هوية محيطهم و ثقافته.

فاللغة ليست مجرد وسيلة تواصل وتعبير عن الثقافة، بل هي هي الثقافة، إذ لم تبدع أمة و لم تخلّف إرثاً حضارياً دون أن تفكّر بلغتها وتدرس بلغتها من المهد إلى اللحد حتى تعطي بلغتها.

كم هدمنا من هذا الصرح العظيم بمعاولنا من عامية ضيقت فكرنا بكلمات قليلة وتعبيرات محدودة

دونكم ألمانيا المتعصبة للغة والهوية التي قال فيلسوفها فيخته: "اللغة تجعل من الأمة الناطقة بها كلاً متراصاً خاضعاً لقوانين، إنها الرابطة الحقيقية بين عالم الأجسام وعالم الأذهان".

وفرنسا التي قال راهبها غريغوار: "إن مبدأ المساواة الذي أقرته الثورة يقضي بفتح أبواب التوظف أمام جميع المواطنين، ولكن تسليم زمام الإدارة إلى أشخاص لا يحسنون اللغة القومية يؤدي إلى محاذير كبيرة، وأما ترك هؤلاء خارج ميادين الحكم والإدارة فيخالف مبدأ المساواة، فيترتب على الثورة – والحالة هذه – أن تعالج هذه المشكلة معالجة جدية، وذلك بمحاربة اللهجات المحلية، ونشر اللغة الفرنسية الفصيحة بين جميع المواطنين".
 

تتزاحم الأمثلة من اليابان وكوريا الجنوبية إلى الصين والهند فأوروبا وأمريكا غرباً… عن أمم قدّرت لغاتها القاصرة وأحيتها في مجتمعاتها فأثمرت؛ لأنها وعاء فكرها، فما أظلمنا من أبناء لم يعوا قدر لغتهم الجامعة الواسعة المبينة الفصيحة التي اختارها الله – تعالى – و أنزل بها الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم!

كم هدمنا من هذا الصرح العظيم بمعاولنا من عامية ضيقت فكرنا بكلمات قليلة و تعبيرات محدودة، و تغريب للطفل العربي عن الفصحى ليدخل المدرسة فيجدها في الكتب لغةً أجنبيةً يتعلمها كسائر اللغات.

ناهيكم عن فوضى الإعلام التي فضحت عُوارنا اللغوي في مواقع الشابكة وقنوات الإراءة والإذاعة حيث العجب العجاب ومجالس الانتهاك والمجازر المروّعة بحق العربية، فمتشبّه بالكتّاب لم تعجبه أحرف لغته، أخذ يكتب كلاماً عربياًّ بخليط عجيب من الأحرف اللاتينية والأرقام، ومذيع يقرأ فيخفض المرفوع ويرفع المنصوب، وأخرى متحذلقة تطعّم كلامها الركيك بشيء من الإنجليزية وبعض من الفرنسية، فتقرأ ما تستقبحه الأنظار، ويقع في أذنيك ما تمجّه الأسماع!
 

اللوم كل اللوم على العرب المنسلخين من لغتهم المحتقِرين إياها المصغين لمحاربيها والطاعنين فيها

إن حاجتنا إلى إعادة النظر في مناهجنا التعليمية ومواد ‫اللغة العربية‬ خصوصاً ملحة أيما إلحاح؛ لتُجاري التطور المعرفي و التقني موفِّقةً بين الأصالة و الحداثة، تُلقَّن بأسلوب لا يمله الطالب، و تكون لغة ‫‏التعليم‬ لمختلف الاختصاصات العلمية و الأدبية في الجامعات و المعاهد العربية، ففيها من كثير اللفظ ودقة المعنى ومرونة الصرف وبلاغة التعبير وإيجاز المطوَّل ما يغني ويزيد

بحر لا يضنّ باللآلئ على طالبها، كما قال الشافعي: ولسانُ العربِ أَوْسَعُ الألسنةِ مَذْهَباً، وأَكْثَرُها ألفاظاً، ولا نعلمه يُحيطُ بجميعِ عِلْمِه إنسانٌ غير نبيٍّ، ولكنَّه لا يذهب منه شيءٌ على عامَّتِها حتَّى لا يكونَ موجودًا فيها مَن يعرفه، والعلمُ به عند العربِ كالعلمِ بالسنَّةِ عند أهل الفقه. الرسالة : 42

لا شك أنه مطلب صعب في ظل أنظمة الاستبداد التابعة؛ لأن القرار في هذا سياسي لا شعبي، إلا أنه ليس بالمحال.
 

لا تثريب على من درس بغير لغته وضرب في الأرض سعياً إلى مقام تُحترم فيه آدميته بعيداً عن بؤس بلادنا، فطلبُ لغة أخرى بات ضرورة لا ينكرها عاقل، إنما اللوم كل اللوم على العرب المنسلخين من لغتهم المحتقِرين إياها المصغين لمحاربيها و الطاعنين فيها، ما دفع الدكتور عمر فروخ إلى القول: أعجب من الذين يدرسون اللغات الميْتة، ثم يريدون أن يميتوا لغة حية كالعربية!

لقد تناسوا أنّا حين أنزلنا الفصحى منزلتها و قدرناها حق قدرها و استمسكنا بالقرآن فهماً و حفظاً وتدبراً رفعتنا فوق الورى فأحرزنا قصب السبق و حُزنا القدح المُعلّى، ولمّا هجرناها لاهثين وراء لغة غيرنا نكصنا على أعقابنا فسُقط في أيدينا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.