شعار قسم مدونات

أحلام مع وقف التنفيذ

blogs - syria

لا نعلم كيف استحالت حياتنا إلى عنق ثنائيات تطل علينا من هواتف توصف بأنها " ذكية" أو من شاشات أخبار غارقة في اللون الأحمر، ثنائيات تقول لنا إن شروط العيش في حاراتنا العربية لم تعد ممكنة بمضامين السلام والمواطنة والطمأنينة، بل على العكس من ذلك تبدو الأحلام بعيدة في ظل كوابيس اللحظة الراهنة والواقع القاسي.

كلهم يتشابهون في أحلامهم البسيطة، وقد أتاحت لي السنوات الخمس الماضية فرصة التعرف إلى أصدقاء رائعين يبحثون عن عيش آمن وكريم وحر في بلدانهم، خالد واحد من هؤلاء، التقيته في درعا قبل ثلاث سنوات، وكان حينها يتمنى أن يرى سهل حوران جنة للخير والنجاة، وأن يتمكن من دراسة البكالوريوس في الجامعة بعد أن حصل على معدل ممتاز في الثانوية العامة قبل أن تتوقف حياته الدراسية بفعل المواجهات في قريته بين المعارضة المسلحة من جهة وقوات النظام وشبيحته من جهة ثانية.

لم يكمل خالد دراسته، وشردت عائلته وبقي وحده في قريته التي أمست أطلالا، وبعد حين فاضت روحه إلى بارئها ومثلها أحلامه عقب شظايا متناثرة من براميل متفجرة يقدمها النظام "الممانع" "هدية" يومية لشباب درعا الذين نادوا بالحرية ذات ربيع.

ممدوح صديق آخر التقيته قبل أربعة أعوام، يعشق تراب المحروسة ويعتقد أن محافظة الغربية مركز الكرة الأرضية، وأن الدنيا لا تسعه حينما يبصر جمال قريته بعيد شروق الشمس أملا في تفاؤل ظل بعيدا عنه، غرق هو الآخر في شتات اللحظة الراهنة، وانتهى به المطاف إلى سجون النظام الانقلابي في مصر قبل عامين، وكل أحلامه عن الحرية والرغبة في تأسيس أسرة وادعة ذهبت أدراج الفشل.

انتقل الحلم إلى مربع المستحيل، بعد أن داهمت صاحبه الثورة المضادة

ليست ليبيا واليمن بأحسن حالا من مصر وسوريا، فالألم رافقني كظلي وأنا أرقب المآلات التي انتهى إليها رجال طيبون عرفتهم في هاتيك المدن الثكلى، ففي بنغازي درة مدن الشرق الليبي حدثني صديقي سالم بإسهاب عن حلمه بتعلم اللغة الإنجليزية، فنظام القذافي أجبر الطلاب ومنهم سالم في العقود الماضية على تمزيق كتب اللغة الإنجليزية والاحتفال بالتخلص من "هيمنة لغة استعمارية".
 

انتقل الحلم إلى مربع المستحيل، بعد أن داهمت صاحبه الثورة المضادة قبل عام وأفقدته يده وقدمه، وهو الذي قاتل ببسالة في ثورة السابع عشر من فبراير، كم كان يتمنى أن يتحدث الإنجليزية بطلاقة، ولم يكن يعلم أن لغة الحرب في بلاده تعلو فوق كل اللغات، هكذا ببساطة يتحول المرء من حال إلى حال أخرى وسط "دول" لا مساحة فيها للحياة أو الحلم.

حتى اليمن، لم تسعفه الحكمة أو التاريخ العريق، وتاه أبناؤه اليوم في جباله الوعرة، بعد أن توارت سعادة الماضي وأسرار قوة الإنسان لصالح الخراب والنزاع، يروي لي نجيب صديقي العدني -وقد التقيته بالقرب من ميناء المعلا- عن زوال البنية التحتية بالكامل في "اليمن السعيد" وهشاشة التعليم وهو الذي يشعر بالحسرة على طفلته التي لم تنل حقها في التعليم الجيد، وينتظر نجيب سفينة تحمله وزوجته وطفلته من خليج عدن إلى أي بلاد بحثا عن وطن حقيقي، وقائمة الانتظار طويلة ليمنيين عرفتهم عن قرب بعد عام 2013.

خالد وممدوح وسالم ونجيب وملايين مثلهم، تمت محاصرتهم وتقييد أحلامهم، وهم الأجدر بأن تدون تجاربهم المرة، فما هو التدوين إن لم يقف عند أحلام أجيال ثكلى تاهت في زحام مجنون؟ أحلام لا تنطوي على جنون أو خيال بل إنها حاولت ملامسة حقوق الإنسان التي تزخر بها دساتير الأنظمة العربية.

تعلمت من أصدقائي في سوريا ومصر وليبيا واليمن أن الحياة حلم، وأن الإنسان بلا حلم بقايا إنسان

في خضم حدة الشقاق المتراكم في الواقع وكذلك في العالم الافتراضي على منصات وسائل "التواصل" الاجتماعي، يمكن للمرء أن يرصد حجم الفجيعة حيال روايات الشباب التي ضاعت في لجة الدم المسكوب، فلقد تجاهل الجميع هذه الروايات وغرقوا في تحليل ثنائيات "السنة أوالشيعة" و"الأكثرية أوالأقلية" و"الدين أوالعلمنة" و"الاستبداد أو الفوضى" و"إرهاب الأنظمة أم إرهاب التنظيمات المتطرفة" وغيرها من صخب الحرف في تلك المنصات!

ينسحب الإعلام ومعه النقاشات والصدامات في منصات العالم الافتراضي إلى مستنقع الانقلابات والثورات المضادة وأفاعيل الدولة العميقة وفوضى الاحتجاجات التي اجتاحت مياه منطقتنا المأزومة في سنوات العقد الثاني من هذا القرن.

وفي المقابل كشفت لي تغطيات هذه السنوات جمال أصدقاء يزخر بهم الوجدان رغم إلغاء أحلامهم أو تأجيلها، وكتابة التاريخ في هذه المرحلة الحساسة ومثلها مرارة التدوين لا تصلح في تقديري لسرد ما تفعله المليشيات وأنظمة الاستبداد وبشاعات المذهبية والطائفية والعنصرية، بل إنها يجب أن تتوقف عند أحلام هؤلاء الشباب، فهم المربع الأول الذي لم نجب عن أسئلته وهواجسه بعد، فكيف يمكن لنا أن نفهم ما يحدث في المربع الأخير إن لم ترتبط البدايات بالنهايات؟

تعلمت من أصدقائي في سوريا ومصر وليبيا واليمن أن الحياة حلم، وأن الإنسان بلا حلم بقايا إنسان، كما أن القيمة الأخلاقية لما شعروا به وقضى بعضهم من أجله تستحق أن توثق وتنتشر بين العرب بوصفها أصل القصة وسرها الجميل رغم كل السواد الذي يطمس العيون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.