شعار قسم مدونات

صدفة

blog - pen
قبيل المغرب بساعة أو ساعتين مرت دبابات أمريكية لعينة من شارعنا كان ذلك أواخر عام ٢٠٠٦ على ما أذكر، ثار الغبار الذي كان يغطي أسفلت الشارع إثر مرورها؛ كما لو كان بركانا يثور لحظة انفجاره، حاولت ورغم خطورة الموقف أن أؤرخ اللحظة بالتقاط صورة من هاتفي المتواضع، فالتقاط صورة آنذاك وبشكل خفي لدبابة أمريكية أشبه بعملية انتحارية، لكني فعلت ومن خلف الستارة تسللت عدسة هاتفي اقتنص من خلالها صورة للدبابات التي كان الموت أحب إلىّ من رؤيتها.

شاءت الأقدار أن تكافئ شغفي بقناة الجزيرة منذ انطلاقتها، لتجعلني بالقرب منها ومن أعمدة أركانها

قطيع دبابات الأبرامز أخذ يتلاشى منظرها أمامي شيئاً فشيئاً، وكلما ابتعدت كانت ذرات التراب تلاحقها ناقمة على مرورها، حتى الأطفال كانوا كثيرا ما يلقمونها حجرا، فكرت بأن كل نراه ونعيشه منذ الغزو الأمريكي عام ٢٠٠٣ أمراً غير عادي، إنه مرحلة جديد وخطيرة يمر بها العراق مع احتلال بغيض لم نشاهده من قبل، قرأنا عنه فقط في كتب التأريخ، وتحت عناوين أخرى شاهدنا دباباته عبر شاشات التلفاز تغزو مدن فلسطين المحتلة، أما في ذلك اليوم فقد صار الأمر واقعاً منذ أن سقطت بغداد عام ٢٠٠٤، وهذا ما لم نحسب له حساب.

في صباح اليوم التالي لمرور الدبابات من شارعنا، وقفت عند نافذة الشباك في صالة جلوس العائلة المطلة على الشارع، كنت أطالع حركة المارة وبين يدي كوباً من الشاي الساخن عادة في مثل ذلك الوقت الصباحي، أتصفح الانترنت والمنتديات حيث لم يكن لديّ حساب على الفيس بوك، غير أنّ انقطاع الكهرباء حال دون ممارسة هوايتي بالجلوس أمام تلك الشاشة لساعات دون ملل، في تلك اللّحظة وقبل أن ينتهي كوب الشاي مرت عربة محملة بسعف النخيل اليابس يجرها حصان بائس يقودها إنسان متهرئ الملابس ضعيف البنية، كان البائع ينادي بصوت عال جداً وكأنه يريد أن يخرم أُذننا لنبتاع بضاعته، كان ينادي قائلاً: حطبٌ للبيع.. من يشتري الحطب؟

منذ أعوام لم أر بائع الحطب ولم يلفت انتباهي كما في ذلك اليوم، فقد استبدل الكثير من العراقيين "تنور الطين" الّذي كانوا فيه يخبزون؛ بتنور آخر يعمل على الغاز يطلق عليه محلياً (تنور ستيل)، لكن الاحتلال لم يأت بالخير الذي وعد، فعاد تنور الطين بقوة وعاد الحطب.

أحزنني ذلك المنظر والأشد منها حزنا سعف النخيل الممتد فوق العربة كجثة تُحمل إلى مثواها الأخير، كما حزّ في نفسي أن بلادي وبعد الغزو الأمريكي سرعان ما عادت إلى بدايات العصر الحجري، بخلاف ما كانت تطلع إليه من نهضة وتطور وعمران.
 

عاد التيار الكهربائي الّذي اعتدنا انقطاعه بشكل يومي، سريعاً جلست أمام الحاسبة وصدفة تبادلت أطراف الحديث مع أحد مراسلي قناة الجزيرة ، نقلت له ما شعرت به من مشاهدتي بائع الحطب والدبابات الأمريكية، فورا أخبرني أن أكتب ذلك وألخصه في مقال على أنّ يقوم بنشره في موقع يدعى "الجزيرة توك".

كنت أعرف الموقع كمشتركة في منتدياته، إلا أني لم أكن صحفية ولم أُدون من قبل شيئا، بل لم أكن أعرف أبجديات الصحافة، كل ما كتبته في حياتي كان عبارة عن "إنشاء"، يطلب منا في مادة اللغة العربية خلال المراحل الدراسية، غير أن الصدفة اعترضتني من دون سابق تخطيط لتنقلني إلى عالم لم أفكر يوما بأن أكون حلقة من حلقاته واسعة الأفق.

ربما شاءت الأقدار أن تكافئ شغفي بقناة الجزيرة منذ انطلاقتها، لتجعلني بالقرب منها ومن أعمدة أركانها ونجومها مذيعين وصحافيين ممن لم أجرؤ حتى أن أراهم بطيفي.

شطبت شهادة ميلادي السابقة ومع مقالي الأول أبصرت حياة جديدة قادتني إلى لقاء عمالقة الإعلام العربي

شعرت لحظتها بالارتباك، أمسكت قلماً وبضع وريقات وبدأت أسطر الكلمات، قالت لي صديقتي التي كانت تتابع معي تلك التطورات، أتكتبين بالقلم ولا تفعلين ذلك على جهاز الحاسوب؟ أنت تصعبين الأمر على نفسك!
قلت لها أن القلم يمدني بالكلمات بعكس هذه الحروف الجامدة التي لا أحسن التفكير وأنا أنقرها؛ ألم تكن كل بدايات البشر من مداد وورق، لما لا تكون بدايتي كذلك!

كتبت كثيرا ومزقت ورقاً أكثر، حتى خرجت بمقالي الأول "تكنولوجيا العصر الحجري"، نشر المقال على موقع الجزيرة توك مطلع عام ٢٠٠٧، ومن هنا وقفت على أول السلم نحو الصحافة التي كنت أجهلها، وقفت كما طفل يقف للمرة الأولى على قدميه، ثم سرعان ما يحاول أن يخطو حتى وإن تعثر وسقط لكنه ما يلبث إلا أن يعيد التجربة، وهكذا مع الجزيرة توك، شطبت شهادة ميلادي السابقة ومع مقالي الأول أبصرت حياة جديدة قادتني إلى لقاء عمالقة الإعلام العربي وإلى الكتابة والتدوين في عدة صحف ومواقع.

كما أصبحت مؤمنة جدا بأن رب صدفة خير من ألف ميعاد، ورب خطوة تختصر لك ألف ميل، من سفينة الجزيرة توك كان أول إبحار ليّ وعبر تلك الرحلة رسوت اليوم على شواطئ الجزيرة لتنطلق حروفي في زحمة الكلمات مرة أخرى عبر سفينة جديدة وشراع جديد يحمل اسم "مدونات الجزيرة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.