شعار قسم مدونات

نضال.. شحاذ بعين المجتمع!

blogs - nedal
على يمين ويسار كرسيه المتحرك لافتتان تحملان الجملة ذاتها بخطٍ أنيق "إخواني وأخواتي أرجو المساعدة"، وعلى مرفقي الكرسي علبتان معدنيتان وضعتا كيفما اتفق لاستقبال ما يضعه المارة من قروش زائدة في جيوبهم أو دنانير يُكفرون بها عن نسيانهم لإخوانهم المحتاجين، بالتأكيد، فإن العلبتين فارغتان على الدوام، لأن القروش التي يضعها الناس تختفي فوراً في كيس يخبىء فيه غلته واضعاً إياه خلف ظهره، حيث يظن الجميع أن هناك مكمن الألم وعلة إعاقته عن المشي.
 

– هل تسمح لي بالتصوير؟
– يجيبني مع ابتسامته العريضة شبه الفارغة من الأسنان: آ..آ..آه.. أكيد.
– يمكنني نشرها أيضاً؟
– آ..آ..ه .. رح أضحك..
– ما هو اسمك؟
– نننـ .. ننننـ … نننداااااال ..
– تقصد نضال؟

عندما استفسرت عن أهل ذلك المتسول، تلقيت الإجابة المعتادة، والدي في السجن وأمي متوفية ولدي الكثير من الإخوة لأعيلهم

تُقاطعنا امرأة كبيرة في السن واضعةً خمسة قروش في علبته المباركة، يُخرجها، يقلبها، تتوتر أنامله شعوراً بالقلة، تتعثر الخمسة قروش فتقع تحت كرسيه، يحاول بقدمه العنينة إزاحتها حيث يمكن ليده أن تصل، لكن قدمه تتعثر أيضاً بإعاقتها ولا تستطيع، يتعثر لسانه وهو يحاول أن يلعن، كل شيء في الرجل المسكين كان يتعثر حتى أنهيت الموقف وأعدت المال إلى مكانه..
استرسلت في حديثنا كأن شيئاً لم يكن..
– من وضعك هنا؟
– لل.للل.لللل.للللحالي …

محاولاً أن يشرح لي بأن منزله على بعد عدة شوارع من مكانه، وأنه بالفعل يستطيع اجترار الكرسي وحده دون مساعدة من أحد، وعندما استفسرت عن أهله تلقيت الإجابة المعتادة، والدي في السجن وأمي متوفية ولدي الكثير من الإخوة لأعيلهم، هذه أشياء أكتبها في سطر لكنه في ربع ساعة قالها، مع أخذ استراحات للتفرج على المارة بالطبع..

تململتُ بقلة صبر، كرهتُ اتسامي بطبع أكرهه في الآخرين، لوهلة شعرت بأنني لا أشفق على هذا الرجل، ولا أشفق على نفسي، وأرى أننا كلنا في مصير مشترك، بالتأكيد سأراه مشتركاً طالما أنني لا أعاني أي مرارة تعكر صفو حياتي المملة، بينما هو جالس في انتظار أي خمسة أو عشرة قروش من مارين أفنوا ألسنتهم في مجادلة أصحاب المحال التجارية لإنقاص دينار أو دينارين من سعر قطعة ملابس أو حذاء، ولا أحد يعلم إذا ما كانوا بالفعل بحاجة لما أنقصوه أم هي المبارزة المعتادة بين البائع والشاري لانتصار يظنه الشاري، ويوقن به البائع.
 

ظهر على وجهي أنني أردتُ منه صورته، حاجته، يأسه، هيئة ثيابه الممزقة وضحكته البلهاء ومعرفة عدد القروش التي يكسبها في اليوم الواحد، لا مساعدته

أبتعد عنه قليلاً لآخذ صورة من جهته اليمين لتظهر اللوحة، لا ينظر إلي، يمر أحد خفيفي الظل في هذه البلاد قائلاً "نيَّالك بتتصور وإنت بتعمل نفسك مش شايف".. حينها فقط انتبهت، لقد ظهر على وجهي أنني أردتُ منه صورته، حاجته، يأسه، هيئة ثيابه الممزقة وضحكته البلهاء ومعرفة عدد القروش التي يكسبها في اليوم الواحد، لا مساعدته. لم أكن الشخص الذي قد يرغب مسكين مثله بالنظر إليه.

 

أكملت طريقي لشراء بعض الحاجيات دون أن أقول له مع السلامة، فرحتُ بالصورة ونسيته تماماً، ساعة مضت وأنا أتأمل من زجاج المحلات ثيابا لا تعجبني، وإذا بي أراه بين السيارات يجر بقدميه السليمتين -كما بدتا لي في تلك اللحظة- كرسيه، الرجل المتحرك بدلاً من الكرسي المتحرك، يرد السلام على أصدقائه الذين يعرفونه جيداًعلى ما يبدو، كلما رفع يده اليمنى إلى فمه أخفضها ليخبئها كما كان يخبئ النقود التي شحذها خلف ظهره، أتوجه إليه، أتوقف، أدقق أكثر، لفافة بيضاء.. كان يدخن السيجارة بانتشاء وسعادة بالغتين، تراودني فكرة وأضحك عليها، نضال الشحاذ بعين المجتمع لا يزال رجلا لا يعيبه شيء، ترى كم عدد النساء اللاتي ما زلن يحاربن العادات من أجل الظهور على الملأ وهن يحملن هذه السيجارة اللعينة؟.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.