شعار قسم مدونات

لن أبرح حتى أبلغ

blogs - q
منذ الطفولة وفضائل سورة الكهف تتردد على مسامع أذني، فكل جمعة كانت تحثني أمي على قراءتها، ثم تنهال تلك الترنيمات الدالة على رضاها إذا ما رأتني ممسكة المصحف قارئة ما تيسر من هذه السورة، فتطرب أذناي لتلك الترنيمات. فأمي كانت مؤمنة حق الإيمان أنها ستحميني من شر ما خلق، لم تعلم حينذاك أن سورة الكهف كانت الدرس الأول ودليلا قادني فيما بعد لأولى خطواتي.

في بدايات تعلمي، لم تتميز قراءتي لسورة الكهف عن قراءة جريدة أتعجل كعادتي التخلص منها، إلى أن باغتتني هذه السورة في السنة الأخيرة من الثانوية العامة، فهاجمتني كدرس أوجب علي حفظ آياتها ومعاني كلماتها وكذلك الحكمة من نزولها. أدركت أن الجمال اختبأ بين آياتها، توارى بين السكنات والحركات، جمال خفي عن العينين إلا من أبصر قصة نبي الله موسى مع الخضر عليهما أفضل الصلاة والسلام.

شغف موسى كان المكون الأول لملامح عالمي، والركيزة الثابتة لزواياه

فالقصة تحكي لنا موقفا عجيبا نرى فيه رسولا من أولي العزم يعيش المحدودية في علمه ويواجه القصور في معرفته، فقرر الالتحاق بمعلم (وهو عالم زمانه) ليدرس ويتعلم على يديه، فنرى المعلم يقوم بتعليمه دروسا يكون الواحد منها أعجب من الآخر، أنهت معلمتي بتلك العبارات درسها ودارة عقلي أوشكت على الانفجار.

كررت الوقوف مرارا وتكرارا عند ردة فعل موسى، ذلك التلميذ المجتهد، فاستغربت الفعل كل مرة، حاولت أن أتخيل تلك اللحظة التي أوشك فيها الوصول إلى أمر ثم ما يلبث حتى ينتهي به المطاف عند خط الانطلاق مرة أخرى بنفس العزيمة والإصرار لرحلة البحث، فلماذا هذا الإصرار يا نبي الله؟

شغف موسى كان المكون الأول لملامح عالمي والركيزة الثابتة لزواياه، لقد جعلني أبتغي العلم حتى التعب، فابتدأت طقوس رحلتي، وجمعت زادي ابتداء من حمل الحقيبة المثقلة بدفاتري وأقلامي ولواصق ملونة لتدوين الملاحظات، ولم تخل حكايتي من فصل مسطرة الهندسة ومشقة حملها ومحاولاتي المتكررة لتجاهل طولها المستفز لطولي.

كنت حينذاك بدأت بحمل دفتر ذي غلاف بني اللون أنيق المظهر معتم المشاعر، أتذكره جيدا فقد استنفد أموالي ونهب حصة ملذاتي من الشوكولاتة وغيرها! كان رفيقه الدائم قلم حبر أزرق أدون به كل ما يخطر ببالي، جعلته صديقي في المحاضرات والمختبرات بل حتى في أوقات الفراغ، فلم أكن أعلم متى تأتي فكرة أو موضوع كتابة ليطرق باب عقلي وقلبي لأهرع إلى تدوينه قبل نسيانه، تلك المساحة المتناثرة على الهوامش التي وهبني إياها كانت ساحة لاقتتال مشاعري وأرضا خصبة للاعتناء بورودي. في داخلها نسيت الملل ومفهوم الحزن، فكانت تلك أولى الخطوات في طريقي للتدوين.

قال لي أحدهم يوما "إن أكثر ما يغذي العقل هو تعلم الرياضيات واللغات المختلفة". كنت قد أخذت من الوقت يوما أو بضع يوم للتفكير قبل أن أكون أول الجالسين في صف تعلم اللغة الفرنسية، ثم انتقلت مؤخرا بعد انتهائه إلى صف تعلم اللغة الألمانية، أكاد أجزم أن اللغات وتعلمها وضعت لأصحاب العقول الفذّة، فأدركت حينها أن عقلي ليس بالفذ، وأنني إذا اعتمدت على الرياضيات واللغات المختلفة كمكون أساسي في تغذية عقلي فالنتيجة أنه سيكون لا محالة أحد ضحايا مجاعات أفريقيا.

كان الضجيج سيد الموقف، جميع الأفواه تتحرك، آراء تتلاطم، نقاش يستعر، أفكار تنتقل من شخص لآخر، في هدوء طغى عليه التعجب. سألت نفسي كيف لهم أن يتكلموا بهذا السرد الجميل؟ يا إلهي ما أقوى مفرداته! ماذا؟ اشتراكي، رأسمالي، علماني، شيوعي! من هؤلاء؟ "معنا أم ضدنا!". تلك المفاهيم هي أول ما بحثت عنه بالكتب بعد أن تخلصت من روايات روميو وجولييت، وفنجان القهوة الصباحية وأخيرا زقزقة العصافير.

"مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة"، أنا لم أجد المشوار لأبدأ الخطوات!

أفكر بجواب دبلوماسي لتساؤلات أمي المتكررة! لم كل هذه الألوان والكراسات موجودة في غرفتي، حقيبة مليئة بقصاصات ورق ملون ذي ملمس مخملي معلقة بجانب خزانتي، فهي أول ما أرى كل صباح، حسنا! سأرميها اليوم، لا بل غدا، لم العجلة؟ سأرميها بآخر الأسبوع! ولا تزال إلى الآن معلقة وبجانبها كراسات مليئة بتجاربي لرسم العين والفم والأنف، نجحت برسم كل واحدة على حدة، لكنهم رفضوا أن يجتمعوا في وجه أحد من البشر لتكتمل معالمه حتى تقول والدتي بعد انتهاء محاضرتها في ترتيب غرفتي "ما شاء الله، إن ابنتي فنانة!".

غيمة سوداء تسمى اللاهدف هزت ركائزي في سنتي الثالثة، كنت أتخبط كالعمياء، فلم أمتلك هدفا يستحق أن أستيقظ له في الصباح مرددة مقولة خبراء التنمية الذاتية المنصوح بها لشحذ الهمم ولجمع الطاقات المكنونة "مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة"، أنا لم أجد المشوار لأبدأ الخطوات! قمت بدراسة تحليلية لنقاط القوة والضعف في شخصيتي، فقررت التباهي بالأولى، واستترت على الأخرى، فالتكامل بينهما حاجة لا غنى عنها، فاستفتحت صباح يوم بداية مشواري لقطع الألف ميل بجملة "يا إلهي سأمشي كل ذلك!".

الجدير بالذكر أن مفهوم العلم مختلف من شخص لآخر، فالبعض مثلي يعتبر أن كل ما يكتسب علما، جيدا كان أم سيئا، فالجيد يضاف لحصيلة علمنا والسيئ يلقننا درسا في فن التعلم. إن العلم لم يحصر داخل جدران الجامعات ولا بين أسطر الأسئلة المسؤولة عن علاماتي المتدنية، فأجوبة مثل هذه الأسئلة عادة ما تكون حاضرة في الصفحة "576" من كتاب عنوانه لا يقرأه سوى ذكاء محرك "غوغل" الاصطناعي راجيا بعدها أن لا نطلب منه إعادة الكرّة، ولكنني لا أنكر أنني فتنت بتلك الكتب وبما احتوته من معلومات وطرق تفكير صقلت شخصيتي حتى تغيرت خططي ذات الأهداف القصيرة المدى، فالآن والدي أصابه الطرش بسبب ترديدي لعبارة "يابا بدي أكمل ماجستير".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.