شعار قسم مدونات

لماذا رفضت المعارضة التركية انقلاب الجيش؟

وفد للمعارضة التركية
كان موقفًا عظيمًا ذلك الذي وقفته المعارضة التركية برفضها الواضح للانقلاب العسكري، لا سيما المعارضة العلمانية المعروفة بكراهيتها لحزب العدالة والتنمية في تركيا.

بيد أن المصالح السياسية أيضًا لعبت دورها في رفض المعارضة للانقلاب، وهو أمر طبيعي كما عودتنا سُنَن السياسة لقرون طويلة، وإن كان الضوء قد انصب على الجذور "المثالية" لموقف المعارضة والإشادة به، وهو موقف مفهوم في عالمنا العربي الذي يفتقد لمواقف مماثلة بين الأطراف السياسية المتصارعة، لكن النظر في الوجه البراغماتي لموقف المعارضة مُهِم أيضًا للإلمام بالصورة كلها.

العملية الديمقراطية بالنسبة لوجود المعارضة على الساحة السياسية لا تقل عن أهميتها للحزب الحاكم

بادئ ذي بدء، لا نحتاج إلى الخوض كثيرًا في أسباب معارضة حزب الشعوب الديمقراطي الكردي للانقلاب، لأن الحزب يُدرك ببساطة -كما يُدرك السواد الأعظم من الأكراد- أن هيمنة الجيش التركي بنزعته القومية العرقية المعروفة، أسوأ له من أسوأ دكتاتورية إسلامية يمكن تخيّلها في تركيا، فأوضاع الأكراد في إيران الإسلامية المجاورة على سبيل المثال لا تصل أبدًا في تدهورها لأوضاع أكراد تركيا خلال عصر الانقلابات العسكرية.

بالإضافة لذلك، فإن انقلابًا في تركيا كان ليلغي ببساطة العملية الديمقراطية، والتي أثبت الحزب الكردي فيها نجاحًا تاريخيًا العام المنصرم، فهو أول حزب كردي ينجح في دخول البرلمان رسميًا بعد انتخابات يونيو/حزيران 2015، وهي نتيجة تبعتها انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 المُبكرة، والتي حصل فيها لأول مرة على عدد مقاعد أكبر من نظيره القومي التركي، مما يعني باختصار أن أهمية العملية الديمقراطية بالنسبة لوجوده على الساحة السياسية لا تقل عن أهميتها للحزب الحاكم، (وهو ما يفسّر أيضًا معارضة الحزب للنظام الرئاسي الذي سيقلّص من أهمية البرلمان لصالح رئيس تُركي في الغالب.)

العلمانيون يعارضون الجيش
يعود السبب الأول لمعارضة الحزب العلماني للانقلاب إلى تاريخه السياسي، والذي لم يرتبط -على عكس الشائع- بدعم النظم العسكرية إلا إبان انقلاب عام 1960 على رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس، وكان موقفه آنذاك نتيجة منطقية لاستهداف مندريس نفسه للحزب العلماني مباشرة، ومحاولته إغلاق مقار الحزب أو الاستحواذ عليها.

علاوة على ذلك، لم تكن المؤسسة العسكرية طوال تاريخها ذراعًا للعلمانيين كما صوّر البعض بقدر ما كانت لاعبًا سياسيًا مستقلًا يجنح للعلمانيين تارة وللمحافظين تارة حسب مصالحه السياسية، فأتاتورك مؤسس الجمهورية لم يُعرف عنه تشجيع الجيش على الانخراط في العملية السياسية، كما أن انقلاب 1980 الأشهر والأكثر دموية شهد انحياز الجيش فعليًا لليمين المحافظ في محاولة لاستمالة الشارع ضد اليسار الذي مثل هاجسًا لأنقرة خلال الحرب الباردة (وكانت تلك استجابة لنصيحة أميركية آنذاك باستغلال الدين وسيلة لضرب الإلحاد الشيوعي!) إضافة لقيام الانقلاب بحل الأحزاب السياسية كافة بما فيها الحزب العلماني.

انقلابات الجيش خلال الحرب الباردة كانت مدفوعة أكثر بالهوس من الفوضى لا بالحفاظ على النظام العلماني

تباعًا، كانت انقلابات الجيش خلال الحرب الباردة مدفوعة أكثر بالهوس من الفوضى لا بالحفاظ على النظام العلماني، وهي انقلابات أتت على حساب الجميع إسلاميين وعلمانيين، بينما كان الانقلاب الوحيد الذي استهدف الإسلاميين بوضوح هو انقلاب 1997 على نجم الدين أربكان الذي لم يكن العلمانيون هم الشريك الأبرز فيه، بل للمفارقة اليمين المحافظ (غير الإسلامي بشكل صريح) والممثل بالسياسي العجوز حينئذ سليمان دميرل.

ليس ثمة سبب منطقي إذن لرهان العلمانيين على الجيش بأي شكل، وإن كان الدعم الضمني الذي أبداه الحزب الجمهوري خلال سنوات العدالة والتنمية المبكرة في السلطة لمذكرات الجيش المُسيّسة ضد حكومة أردوغان، والمطالِبة إياها باحترام العلمانية التُركية، قد خيّل للبعض أن الظروف مواتية لاستفادة العلمانيين من انقلاب عسكري، فإن الواقع هو أن "النُخبة العلمانية" المهيمنة على الجيش طوال التسعينيات ومطلع القرن العشرين قد تآكلت تمامًا لصالح تنظيم كولن المُحافظ وغير العلماني، وذلك بفعل القضايا (المُلفقة في معظمها) التي ساقها التنظيم ضد الحرس العلماني القديم في الجيش.

يأخذنا ذلك للسبب الثاني والأهم لعدم تأييد العلمانيين للانقلاب، وهو ببساطة إدراكهم أن الحراك العسكري كان يتبع حركة إسلامية أيضًا ولكن معارضة للعدالة والتنمية، وأن مناطحة حزب إسلامي في ساحات الديمقراطية أفضل في نهاية المطاف من الخضوع لسُلطة عسكرية تدين بالولاء لتنظيم ديني (أو روحي أو صوفي) لن يتيح من الأصل أي نوع من التنافس السياسي.

الحزب القومي بين أردوغان وكولن
نأتي أخيرًا لحزب الحركة القومية التركي، وصاحب الرؤية القومية العرقية المتطرفة، والذي يميل حاليًا للحكومة نتيجة ضعفه أولًا، ودعمه للعمليات الجارية ضد حزب العمال الكردستاني ثانيًا، غير أن دعمه الشديد للحكومة الآن ينبع من تحوله إلى ساحة صراع بين العدالة والتنمية من ناحية وتنظيم كولن من ناحية أخرى، وهي ظاهرة ملفتة للانتباه تجري في أروقة الحزب الذي يتزعمه حتى اللحظة دولت بهتشلي، وهو السياسي الوحيد المتبقي من مرحلة التسعينيات.

الحزب القومي التركي يميل حاليًا للحكومة نتيجة ضعفه أولًا، ودعمه للعمليات الجارية ضد حزب العمال الكردستاني ثانيًا

يتزعم دولت بهتشلي حزب الحركة القومية منذ عام 1997، وقد أخذ على عاتقه منذ ذلك الوقت إبعاد الحزب عن العلمانية المتطرفة التي تبناها سلفه ألب أرسلان توركش، والاحتفاظ بالقومية التركية كقاعدة أيدولوجية وحيدة للحزب يمكن من خلالها جذب قواعد الناخبين من المحافظين الأتراك، وهي مراجعة كان يطمح بها لكسب نصيب من كعكة الأصوات المحافظة إبان توليه رئاسة الحزب، لكنها أثبتت فشلها بعد ظهور العدالة والتنمية عام 2002 واستحواذه شبه المستمر على تلك الأصوات (باستثناء خسارته لأغلبيته البرلمانية في يونيو 2015.)

بينما تتلاشى ملامح الحزب في خضم إعادة تعريف الدولة التركية لنفسها والتحولات الجذرية التي تشهدها ساحتها السياسية، ظهرت معارضة قوية من داخل الحزب بقيادة السياسيّة مرال أكشنر في محاولة لإعادة بناء الحزب، وهو ما رأي فيه تنظيم كولن فرصة للحصول على ظهير سياسي جديد بعد الافتراق عن العدالة والتنمية بصراعهما في السنوات الأخيرة، لا سيما وأن التنظيم قريب فكريًا من القومية التركية، ليقوم بالتبعية بدعم مطالب السياسية الشابة بإجراء جمعية عمومية استثنائية لاختيار رئيس جديد للحزب، وهي جمعية لم يوافق عليها القضاء التركي حتى الآن.

بتحوّل الحزب القومي ذاته إذن لساحة صراع إسلامي إسلامي لا أكثر، يصير بهتشلي مجرد أداة في يد أردوغان كما يقول معارضوه، وتصير مرال أكشنر هي الأخرى أداة بيد تنظيم كولن كما يتهمها معارضوها، وهو صراع يفسر بشكل طبيعي معارضة بهتشلي للانقلاب، والذي لعله كان ليُنهي حياته السياسية قبل أردوغان نفسه وحزبه الحاكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.