شعار قسم مدونات

تطوير النقاش الإسلامي بشأن الديمقراطية (1-4)

blogs - morsi
                                                                                          

وضعت الانتفاضات العربية قضية الديمقراطية على المحك بالنسبة للشعوب العربية عامة والحركات الإسلامية منها على وجه الخصوص.

وزادت وتيرة الاهتمام بها مع صعود الإخوان المسلمين في تونس ومصر إلى سدة الحكم عبر صناديق اقتراع نزيهة للمرة الثانية في تاريخ الدول العربية ما بعد الكولونيالية بعد تجربة الجزائر المريرة في مطلع التسعينيات من القرن الماضي التي ألقت بظلال كثيفة على تلك التجربتين.

يتضح لنا أنَّ التنظير الفكري للإخوان والسلفيين في مصر في الأربعين عامًا الأخيرة كان تابعًا بشدة لخياراتهم الحركية وليس العكس

وقد كانت تلك القضية -قبل 2011- قضية نظرية محل تنازع أيدولوجي إسلامي علماني وإسلامي إسلامي، وهو محل اهتمامنا هنا. فبين قائل بمطابقتها لفكرة -وليس نظام- الشورى الإسلامية التقليدية بصنفيها الـمُلزِم وغير الـمُلزِم، وبين من يفصل "فلسفتها" عن "آلياتها" فيرفض فلسفتها ويقبل آلياتها، إلى من يرفض فلسفتها وآلياتها تمامًا ويرمي بالكفر من يشتركون فيها، أو من يقبل -على مضض- دخول الإسلاميين في المجالس البرلمانية على سبيل تقليل بعض المفاسد وتحقيق بعض المصالح إن أمكن، لكنه ينفي بالكلية إمكانية الاعتماد عليها كوسيلة للوصول إلى الدولة الإسلامية المنشودة.

لكن من الناحية العملية اتفق الإسلاميون بجميع أطيافهم -عقب 2011- على أن الديمقراطية (مختزلة في صورة صناديق الاقتراع) ربما تكون وسيلة جيدة للوصول إلى الحكم، حتى أن الدعوة السلفية في مصر والتي طالما كان تنظيرها الأساسي قبل الانتفاضات العربية رافضًا لدخول البرلمانات؛ أسَّست حزبًا سياسيًا شارك في أول انتخابات برلمانية في مصر في 2011.

وقَبِل أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة -على مضض- هذا التوجه في تسجيل أسماه "رسالة الأمل والبِشر إلى إخواننا في مصر" وإن كان قد حذر الإخوان المسلمين في مصر من خصومهم الذين "يتعاملون مع الديمقراطية كصنم عجوة سيأكلونه عند اللزوم لحرمان الإسلاميين منه"، وهو ما حدث فعلاً فيما بعد، ليعود -الظواهري- بعد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013 ويدعو الإسلاميين ومرسي إلى التخلِّي عن الديمقراطية والعودة إلى "الجهاد" كسبيل أوحد لإقامة الدولة/الخلافة الإسلامية المنشودة.

وعقب انقلاب الثالث من يوليو 2013 في مصر أعرب كثيرٌ من شباب الحركة الإسلامية عن كفرهم بـ "الديمقراطية"، و"صندوق الانتخابات"، وبدا هذا كردِّ فعلٍ طبيعي على انقلاب عسكري تقليدي على تجربة صعود إسلامي للحكم عن طريق "صناديق الانتخابات" في دولة عربية ما بعد كولونيالية.

وبالتالي لا يظهر لنا هل لو كان الإخوان المسلمون والنخبة السياسية على قدر مسؤولية التعامل الصارم مع المؤسسة العسكرية ونجحوا في صناعة شكلٍ من أشكال "التوافق المدني" يقف في وجه محاولاتها لاستعادة ما فقدت من سلطتها التقليدية، وأفشلوا الانقلاب، ودمجوا الجماعة الإسلامية الأم  في كيان الدولة الوطنية الحديثة في مصر؛ هل كنا سنرى نفس ردود الفعل حول "الكفر بالديمقراطية"، أم كنا سنسمع مديحًا في منهج "التدرج الإصلاحي"، والعمل داخل "القطريات الوطنية" ومن خلال مؤسساتها؟

يتضح لنا الآن أنَّ التنظير الفكري للإخوان (الإخوان التنظيميين والتابعين فكريًا لنفس المدرسة) والسلفيين في مصر في الأربعين عامًا الأخيرة كان تابعًا بشدة لخياراتهم الحركية وليس العكس، فالعمل "الإصلاحي" داخل القطرية الوطنية -كما تبنَّته جماعة الإخوان الثالثة في السبعينيات خلافًا لما كان عليه الأمر في الجماعة الأولى؛ جماعة الأستاذ البنَّا- كان يتطلب تنظيرًا جديدًا حول العلاقة بين "الديمقراطية" و"الإسلام" -ككيانات نظرية مجرَّدة-، وضرورة الدمج بينهما.. إلخ.

تُعلِّمنا التجربة أن القدرة على رؤية مدى فساد الواقع وإمكانيات إصلاحه، لأي مجتمع، تنبع أساسًا من كفاءة نخبه الفكرية والسياسية

وفي المقابل تطلَّب التركيز الشديد على الإصلاح الفردي ذو الطبيعة البروتستانتية لدى السلفيين إغراق الأتباع بأدبيات الكفر بالديمقراطية وإنعدام إمكانية الإصلاح عبر البرلمانات (نكاية في الإخوان)، ثم التركيز على مسائل الاعتقاد الكلامية التي لا ينبني عليها عمل تقريبًا في الواقع المعاصر، أو التشديد على مسائل الهدي الظاهر وما إلى ذلك.

تُعلِّمنا التجربة أن مساحة الخيال السياسي، أي القدرة على رؤية مدى فساد الواقع وإمكانيات إصلاحه، لأي مجتمع، تنبع أساسًا من كفاءة نخبه الفكرية والسياسية وقدرتها على رؤية هذا الواقع وتوضيح مشكلاته وحلولها.

وهذا ما لم يتوفر للأسف في النخبة الإسلامية الفكرية أو الحركية التي تولت القيادة خلال الأعوام الماضية، واتضح لنا أن كل هذا التنظير البارد كان مجرد رد فعل على حالة الفراغ والبطالة التي عانت منها الحركة الإسلامية في مصر منذ منتصف السبعينيات إلى الآن بعد خيارها الإستراتيجي الذي اتخذته بالعمل داخل حدود النظام القائم وعدم تجاوزها، وهو ما جعلها بشكل ما مدينة له بوجودها وحركتها على عكس النسخة الأولى من جماعة الإخوان المسلمين التي خرجت من رحم حراك سياسي واجتماعي وثقافي قوي في الثلاثينيات والأربعينيات في مصر والعالم العربي.

وحتى لا يكون "الكفر بالديمقراطية"، إذا اعتبرنا -تجاوزًا- أن ما تحقَّق كان تجربة ديمقراطية حقيقية، مجرد رد فعلٍ متحمس يُمكن احتواؤه من قِبل الأنظمة كما جرى احتواء التوجه الإسلامي لصناديق الاقتراع؛ يتغيَّا هذا المقال بناء إطار أوسع للنقاش الإسلامي الإسلامي إزاء هذه القضية الخطيرة محاولاً الخروج بها من إطاري المقارنات النظرية التلفيقية التي لا ينبني عليها عمل والذي كان سائدًا قبل الانتفاضات العربية، وكذلك إطار السجال الهدَّام الذي جرت عليه النقاشات الإسلامية الإسلامية بعامة في هذا الشأن، وبين الإخوان وأشياعهم والجهاديين وأشياعهم على وجه الخصوص.

 يُتبع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.