شعار قسم مدونات

جلاء الذكريات

غزة
الجلاء هو اسم يرتبط بأعياد الجلاء من الاحتلال الأجنبي في أكثر من بلد عربي. ذلك الاسم هو اسم العمارة التي يقع فيها مكتب شبكة الجزيرة في وسط مدينة غزة المشهورة بارتباط شوارعها المكتظة وأحيائها المزدحمة بأسماء لها معنى في ذاكرة وحاضر الفلسطيني المفتخر بالدفاع عن قضيته وبتاريخ أمته العريق وأبطالها العظماء، كأسماء النصر والوحدة وعمر المختار وصلاح الدين والشهداء وغيرها من الأسماء التي تصبغ زوايا المشهد وتفاصيله في القطاع المحاصر..

من شرفات مكتب الجزيرة الذي يقع في الطابق الحادي عشر من عمارة الجلاء تستطيع بجلاء أن تكتشف الخريطة الجغرافية لغزة التي تبلغ مساحتها عددا مثل عدد أيام العام 365 كيلومترا مربعا.

نزيف الدم لم ينقطع وصوت القصف المزلزل خطف العقول والقلوب التي تاهت في تفاصيل تلك الحرب المرير

فغربا يخطفك مشهد زرقة بحرها الذي يبدو في الأفق متنفسا جميلا لمليوني فلسطيني يعيشون في هذه المنطقة الجغرافية الضيقة، لكن في الحقيقة هو بات منغصا على حياتهم بأصوات إطلاق النار نهارا وليلا من البوارج والقوارب العسكرية الإسرائيلية التي تجوب البحر عرضا وطولا في وجه الصيادين، ولا يكاد يوم يخلو من خبر إصابة أو اعتقال أحدهم. وحال البحر كحال الحدود البرية شرقا وشمالا حيث لا تخطئ العين وأنت تحدق النظر.
 

المساحة العازلة التي تفرضها إسرائيل قسرا لمئات الأمتار على الحدود بينها وبين الأحياء الفلسطينية الشرقية من غزة كالشجاعية والشعف والتفاح والتي يرقب أهلها نهارا جهارا تحرك الآليات والدبابات حول الأبراج العسكرية المنتشرة على طول تلك الحدود فيما يهمين على مد نظرك جنوبا المباني المتكدسة وصولا إلى بوابة رفح الجنوبية مع مصر.

في حرب غزة الأخيرة كان هذا المكتب هو المكان الذي جمع أكثر من عشرين زميلا صحفيا من طواقم قناة الجزيرة المختلفة، فكان كخلية النحل لم تتوقف جهدا ومثابرة وإنتاجا كل في ميدانه يغطي بلا كلل ولا ملل، وأيضا كان المنزل الذي جمع الزملاء بعيدا عن أسرهم وأبنائهم وعائلاتهم، فكنا بحق أسرة واحدة خلال أيام الحرب التي كان أكثر من نصفها في شهر رمضان المبارك الذي حاول الجميع أن يحافظ ولو قليلا على بعض من طقوسه وأجوائه رغم أن الواقع المر بمشاهده المؤلمة ونزيف الدم الذي لم ينقطع وصوت القصف المزلزل خطف العقول والقلوب التي تاهت في تفاصيل تلك الحرب المريرة وبدأ الإنسان لا يفرق بين الأيام.
 

في عمارة الجلاء لم نكن وحدنا في هذه الأجواء ووسط هذه التحديات، فللمكتب جيران من عائلات وأسر غزية منحدرة من مناطق مختلفة كان قدرهم أن يعيشوا معنا أجواء التوتر والرعب وأيضا التخوف وتوقع الأسوأ ومتابعة الأحداث، حتى بتنا في كثير من الأحيان نشفق على بعضهم بأن حظه السيئ أن يجاور مكتب قناة الجزيرة، خاصة مع اشتداد أيام الحرب واستهداف الاحتلال الإسرائيلي لبعض المكاتب الصحفية والأبراج السكنية، حتى وصل الأمر في صباح يوم إلى أن أطلقت طائرة إسرائيلية رصاصتين اخترقتا سكون المكان وحطمت نافذتين في مكتب الجزيرة ما دفع الجميع بمن فيهم الجيران حينها على عجل إلى إخلاء العمارة.

ولا أنسى منظر الأطفال والنساء وهم يهرولون في فزع على درج العمارة خوفا من إطلاق صواريخ على المبنى بعد إطلاق النار كما اعتدنا، وشهدنا في كثير من أحداث الحرب أن الطلقات الرصاصية تكون تحذيرا للقصف بالصواريخ، لكن يومها الله سلم وعاد الأهالي وعدنا، فالواقع كان أنه لا بديل آمنا ، ولسان الجميع كان يقول "الله بيلطف" رغم أن الخوف وانتظار الأسوأ زاد أكثر وأكثر منذ ذلك اليوم حتى وضعت الحرب أوزراها.

في كل مرة كان يفاجئني مالك بخفة ظله ومحاولته تقليد شخصيتي أو شخصيات تأثر بها في الحرب

بعد عامين من الحرب التي نحيي ذكراها الثانية خلال هذه الأيام لم يغب عن مخيلتي ولا ذاكرتي الطفل مالك وهو أحد أطفال إحدى العائلات التي تسكن شقة في الطوابق التي تقع أسفل مكتب الجزيرة.

رغم سني عمره الست كان يحرص مالك مصطحبا شقيقته نورة التي تكبره قليلا على القدوم إلى المكتب.. كنت تشعر في طريقة طرقه باب المكتب فهمه بل خوفه أن يكون ضيفا ثقيلا في أيام كان حملها ثقيلا، لكن مالك الصغير كان يصر في كل مرة على لقائي ولو "شوية عمو تامر" كما عهدت أن أسمع هذه العبارة منه.. رغم الانشغال وضيق الوقت وصعوبة الحال كان يعز علي أن أرده أو أن لا ألبي رغبته، لأن في وجه مالك براءة تجذبك سريعا بلا استئذان وحنكة وحيوية وسرعة في الحديث تتملكك ولا تملك إلا أن تنصت له وتشجعه..

في كل مرة كان يفاجئني مالك بخفة ظله ومحاولته تقليد شخصيتي أو شخصيات تأثر بها في الحرب ضحايا كانوا أم مقاومين، فمرة يأتي بورقة يرسمني وأنا في رسالة على الهواء مباشرة، وأخرى يأتي متحدثا مقلدا لمقطع من تقرير أجريته وقد حفظ كلماته عن ظهر قلب، وثالثة يفاجئك وكأنه مدير تحرير يحمل خطة برسمه الطفولي لتقرير ينصحني ويتمنى أن أقوم بإنتاجه متأثرا بحجم المشاهد المختلفة وما يسمعه من قصص وحكايا فيشعرك أن حياته الطفولية اختصرت في أيام الحرب بين شاشة أخبار الجزيرة في منزله ومكتب قناة الجزيرة بجواره.

لم يتعب ولم يمل مالك الصغير طوال 51 يوما، ولا أذكر أنه قد تغيب في يوم من هذه الأيام عن المجيء للمكتب في اليوم أكثر من مرة، حتى جاء مساء ذلك اليوم الطويل الذي أعلن فيه دخول اتفاق التهدئة حيز التنفيذ والتي بموجبها توقفت الحرب فكان أول القادمين إلى المكتب مسرعا ومبتهجا مالك وأطفال العمارة حيث ملأ ضجيجهم المكان مع ضجيج السيارات والأهالي التي ملأت شوارع مدينة غزة في المحيط في يوم لم ولن تنساه غزة التي عاشت ليلة ارتسمت فيها لوحة انتصار إرادة الحياة على إرادة الموت والقتل.

تركنا مالك وأطفال العمارة وغادر كل منا إلى منزله، حيث كان شوقي لا يحده حدود للقاء طفلي كريم ومحمد بعد أسابيع من الغياب. وكنت قد شعرت بالحزن لحزن ابني البكر كريم أن مر الثالث من أغسطس في الحرب وكان يوم ميلاده في عامه الخامس دون أن أراه أو أقبله أو يحظى باحتفال بعيد ميلاده، لكنني حرصت أن أصطحب معي في طريق عودتي في ذلك اليوم هدية عيد ميلاده حتى وإن كانت بعد 24 يوما، أي في يوم السابع والعشرين من أغسطس 2014، وهو اليوم الذي انتهت فيه الحرب التي نتمنى أن لا تعود بأحداثها أو ذكريتها وأن ينعم الله على مالك وأطفال العمارة وأطفالنا جميعا بجلاء الاحتلال والحصار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.