شعار قسم مدونات

لذكراكِ أمي نبض مختلف

blogs - mother

منذُ ما يقارب الست سنوات وقلمي لا يعرف التعب من خطّ المشاعر لكِ، منذُ ست سنوات وأنا أحاول جاهدة في تجسيد ذاك الألم الذي يجتاح صدري كلما مررتِ في شرايين الذاكرة.

لكن لم أنجح في جعل هذا الألم أكثر راحة، لم أنجح في قلب موازين التعب والتأقلم مع غياب جزءٍ من جسدي تحت الثرى بعد حادثة وفاتها، ورغم محاولاتي الكثيرة في جعل العالم بأسره يدرك مدى الوجع الذي حلّ بقلبي، ورغم نشري لقصيدة رثاءٍ لها في جريدة الخليج بعد وفاتها بأيام، ونشري عدة مقالات متلاحقة عن صعوبة الفقد لإنسانة سكنت الروح والقلب معاً.

ست سنوات لم تزدني إلا شوقاً وحباً وألماً وإدراكاً بمدى استحالة النسيان بحق امرأة ترعرت في أحشائها تسعة أشهر.

لكني لم أَمَل بعد من خط حروفٍ لها ولو بعد مضي آلاف السنوات.. رحيلها كان بمثابة قيامة مصغرة لي، ستبقى بطلة حكاياتي ومحور حديثي و تفكيري وجرحي الدامي الذي لن أسمح لأي طبيب في وقفِ نزيفه.

أسعى جاهدة لأكون كاتبة اليتامى، التي لم ينجح أحد سواها في وصف معنى الفقد، أصيغ من دموعي تعابيراً تملأ أوراقي ببعض الحياة علّني أتخلص من لعنتها في جوفي.عندما نفقد شخصاً كان لنا حياة وسندا ورفيق درب وأم فإن الزمن لن يستطيع تغيير شيء من مرارة هذا الفقد.

لن تنجح معادلة النسيان مع مرور الزمان في جعلنا أفضل، كما قال لي البعض أيام العزاء منذ ست سنوات " بكرا الزمن بنسيكي" ! كنت أدرك تماماً مدى هذه الأكذوبة، كنت أعرف أن سعاد تركت فراغا لن يملأ بعدها قط ، حتى الزمن لن يستطيع التفاعل مع أي جزء من ذاكرتي ليجعلها أكثر ضبابية عند هذا الجزء بالذات؛ جزء سعاد.

ست سنوات لم تزدني إلا شوقاً وحباً وألماً وإدراكاً بمدى استحالة النسيان بحق امرأة ترعرت في أحشائها تسعة أشهر، وعشت ما تبقى من حياتي في أحضانها و بين بريق عينيها التي تملأ الدنيا حباً و حناناً.

سعاد (أمي) أتاها مرض عضالٌ أخذها مني، تلك مشيئة الله لا اعتراض على حكمه، لكن لابد من محاولتي جعلها ذاكرة الجميع وليست ذاكرتي فحسب. لم تكن أماً بل أكثر من ذلك بكثير، كانت شجرة معطاءة، تبث الحياة في أرجاء الكون بأسره، بقيت أسيرة ذاك المرض اللعين قرابة الثماني سنوات، أرافقها لجلسات الجرعات الكيميائية في مستشفى توام في مدينة العين (الإمارات).

كانت صديقة الجميع آنذاك، يستبشرون لرؤيتها مجدداً بقلب نابض وعيون مليئة بالحياة ، تواسي المرضى وتخفف عنهم آلاماً كانت تعاني منها هي الأخرى، تقدمني للجميع بكل فخر وسرور؛ هذه ابنتي الوحيدة عائشة، ستكون طبيبة ناجحة و مميزة مستقبلاً وهي متفوقة جداً في دراستها.

يوم وفاتها أحسست وللمرة الأولى بأن للجدران عيوناً تدمع وقلوباً تحزن بها.

أرى تلك الابتسامة التي ترتسم على شفاهها كلما قالت هذه الكلمات مع نظرة حالمة إلى عيوني، لم تكن مريضة سرطان عادية ، كانت حياة لقسم مرضى السرطان بأكمله، تداعب الجميع وتحاول جاهدة في بث القوة داخل تلك الأجساد النحيلة التي أنهكها المرض و الجرعات الكيميائية.

في كل مرة كنت أذهب معها، تنتابني مشاعر خجل من نفسي، كيف أكون سليمة الجسد ومريضة النفس، كيف أسمح لليأس من أن يتمكن مني، وقد نالت منه أمي وهي المصابة ! كنت أستمد قوتي من ابتسامتها التي تملأ كل مكان.

يوم وفاتها أحسست وللمرة الأولى بأن للجدران عيوناً تدمع وقلوباً تحزن بها، ودعتها مسشتفى توام بكل ما فيها من طاقمٍ طبي وأثاث وجدران، شعرت بالحزن في كل مكان، كأن الموت تسرب لكل ذرة من الكون.

توقف الزمن للحظات في ساعتي البيولوجية. عيون المرضى التي كانت تنتظر تلك السيدة القوية التي تمدها بقوت يومها من التفاؤل أين ذهبت ؟! وكأنما كانوا يأتون المشفى ليتلقوا جرعات تفاؤلٍ وأمل من طبيبتهم المريضة سعاد، و ليس من أجل جرعاتهم الكيميائية التي كانت تُصَبُّ في أجسادهم كالسم. رحلت، أما أنا، فلازلت هناك أودعها للمرة الأولى وللمرة الألف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.