شعار قسم مدونات

رائحة العطر تنتقي أصحابها

blogs - عطر
كل شخص يحظى ببراعة خاصة في فك شيفرة رسائل العطر الذي يحملها أشخاص آخرين، وكما الانسجام بين الناس، و نظرية الكيمياء التي تربط بينهم، هناك كيمياء خاصة للعطر الذي قد يندمج مع رائحة البعض دون الآخر، فتجد عبق البعض مثير، والبعض الآخر لا يجسد لنا أدنى اهتمام، فنحن بطبيعتنا البشرية نتأثر بحاسة الشم بشكل كبير، حتى أننا قد ننجذب لأشخاص لمجرد أن رائحتهم تخللت أدمغتنا دون أن ندرك كيف ومتى.

وأكدت تجربة "أجنيشكا سوروكوفسكا" بجامعة فروتسلاف في بولندا، التي أجريت على رائحة أجساد 60 رجل وامرأة، بعد النوم بقميص ثلاثة أيام متتالية، مع تجنب التدخين، وتناول الأطعمة نفاذة الرائحة، والمشروبات الكحولية، أن اختلاف سمات الأشخاص يكون من خلال اختلاف روائحهم، لاسيما المتعلقة بالمستويات العصبية.

بالمسك والعنبر لازلت أحبذ أن تفوح رائحتي، كما كانت تفوح رائحة جارتنا التي كنت أحب أن أجلس بجانبها.

لا ننسى حين أحببنا أول مرة، كيف تعتق عطر من أحببناهم في أنهر هوانا، وكيف أن المسك الذي كان وحيداً على أجسادهم فاح منهم ليعبر عن قصيدة العشق التي روت العطاء بداخلنا، رذاذ عطر أولئك الذين أحببنهم ذات يوم حملنا الى أرض بعيدة وغاص فينا، وجعلنا نرحل في طريق السفر على خصال فرسٍ نسج الود في شرايين أرواحنا التي لا تزال تذكر ذاك العطر الفريد بالرغم من مرور سنوات علينا.

ولو عدنا بتاريخ العطر الذي لم يكن موجوداً في أوروبا منذ آلاف السنين، لشعرنا بالفخر بأن تأسيس صناعة العطر نبع من العرب وبالتحديد من المصريين، الذين وجدوا له طريقتان، احدهما وضع الأزهار على لوح خشبي تدور به سيدتان مع بخ اللوح بالماء، ليجمع عصير الورد بعدها في اناء كبير، وينقل الى أواني فخارية يستخدمها زوجات الأمراء والكهنة، فيما كانت الطريقة الثانية بإحراق الورود في إناء ليفوح الجو برائحة عطرة، وتكون سبيلاً بعد ذلك لعلماء ايطاليين ، أنتجوا أول عطر وجد في العالم بجزيرة قبرص.


عدت بذاكرتي إلى طفولتي حين كانت تبهرني رائحة احدى صديقات أمي، وعطر معلمتي المحببة في الصف، ولم أنسى كيف كان سيل الياسمين يخرج من أنفاس أبي حين ينصحني كصديقته المقربة، وحين كبرت قليلاً كنت أبحث عن رائحة الورق، لا أدري ان كانت هواية الجميع شم رائحة الجرائد الذي افتقدناه اليوم في منازلنا، وباتت القراءة بلا عبق، بل أمست أحاديثنا معاً دون غيم العطر، فأحاديثنا مع المقربين منا على جهاز صغير يصعب أن نضع له عطراً، وكم تمنيت أن أشم رائحة من أعرفهم، بل إني أجهل رائحة معظمهم، لأنهم ليسوا أكثر من أصدقاء عبر شاشة بحجم جهازي المحمول "اللاب توب".

بالمسك والعنبر لازلت أحبذ أن تفوح رائحتي، كما كانت تفوح رائحة جارتنا التي كنت أحب أن أجلس بجانبها، بالرغم من أن رائحة العطر الفرنسي الذي كانت تتعطر به أمي كان يلفت انتباهي أكثر، لذا سعيت دوماً أن أقلد كلاهما منذ كنت صغيرة، ويبقى السؤال الذي أثارني دوماً، ما السر في انسجام العطر على بعض الأجساد أكثر من غيرها؟

ما جعلني أعود بذاكرتي إلى كل الوجوه التي عرفتها في حياتي، فلم أذكر سوى أولئك الذين تمرغ أنفي برائحتهم الزكية، فالحقيقة التي لا يمكننا أن نتخطاها، أنه كما يزكي النحل بعض روائح الزهور ليختار منها رحيقه، فالعطور تزكي بعض الأشخاص لتختلط برائحة عرقهم، وتلثم أجسادهم بقبلة، وتنجلي للمحيط الخارجي كعطر زهور الربيع.


يبدو أن علينا أن نعيد حساباتنا في اختيار عطورنا، لتندمج مع ثنايانا وتزهر ربيعاً أينما ذهبنا.

ما جعلني أشعر بالرضا عن جيناتي العربية، أن العطر لم ينتقل الى أوروبا عن عبث، ولم يكن كوسيلة ترفيهية كما نحن اليوم، بل انتقل اليهم لأنهم كانوا كريهي الرائحة، فقد كان الاستحمام في بلادهم كفراً، حتى أن جارية الملك الفرنسي لويس الرابع عشر "دي مونتيسبام"، كانت تنقع نفسها بالعطر ساعات حتى لا تشم رائحته، فيما لم تستحم الملكة اليزابيلا الأولى في حياتها إلا مرتين، ودمرت كل الحمامات الأندلسية حين دخلت الأندلس، يبدو أنها قامت بهذه المهمة لغيرتها من رائحة الأندلسيات، فطابع الأنثى الغيور يغلب عليها مهما كانت صفتها، أما الهنود الحمر فقد كانوا يضعون الورد على أنوفهم في الحروب كي لا يشموا رائحة الأوروبيين حين يتواجهون في القتال، ما يجعلني أفكر كيف كان الأوروبيون يجتمعون معاً في الأعراس والأفراح، علّ هذا هو السبب الذي جعل طقوس الزواج لديهم شبه معدمة لديهم حتى اليوم.

وأستطيع أن أقول أن شموخي ازداد بعد أن علمت بأن المؤرخ الفرنسي "دريبار"، قال "نحن الأوروبيون مدينون للعرب بالحصول على أسباب الرفاه في حياتنا العامة، فالمسلمون علمونا كيف نحافظ على نظافة أجسادنا"، بالرغم من أننا كعرب نبحث اليوم عن العطر الفرنسي الأصيل، كي يدوم فترة أطول على أجسادنا.

يبدو أن علينا أن نعيد حساباتنا في اختيار عطورنا، لتندمج مع ثنايانا وتزهر ربيعاً أينما ذهبنا، واللجوء إلى خلط العود مع بعض الفانيليا والقرنفل ليضفي على صباحاتنا نوعاً من الدفء الممزوج بالفن والحب الذي ينبغي أن يرافق أجسادنا طوال النهار، علها تعكس على ألسنتنا عطر الكلام والسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.