شعار قسم مدونات

مِطرقَةُ الفيديوقراطية

blogs - cinema
لا ريب أنّ كُل دولةٍ متقدمةٍ اليوم كان لها بالأمس تاريخٌ حافلٌ بالتخلفِ. . بل إنّ كُل دولة مُتخلفةٍ اليوم تطمح لبلوغ المعالي ولكن لا تدري السبيل إلى ذلك. ومن هنا نتحدث على موضوعٍ ذو أهميةٍ كبيرةٍ، وهو كيفية التغيير، أي ماهي السُبلُ والطرق والمنهجية التي يجب اتباعها للرقيّ والتطور في كُل المجالات التي تهمُ الإنسان اليوم لبلوغ الريادة العالمية؟

هذا ما طرحه غيرُ واحدٍ من المُفكرين كُلٌ في عصره وكُلٌ في مجتمعه وكُلٌ بطريقته. وما من طريق أمام أمتنا للتغيير والتي شئنا ذلك أم أبينا لازالت تُحسب ضمن الأمم المُتخلفة إلاّ من خلال تطوّيع كُل الإمكانيات المُتاحة والعمل بكُل المُعدات اللازمة لمُحاولةِ بناءِ رقعةٍ جغرافيةٍ ذات استقلاليةٍ، مُحترمة، وذات مكانةٍ عالمية.

رغم تطور آليات التصوير وتوفر الإمكانيات اللازمة وزيادة لم نر إحياءً فعليًا لهذا التُراث المنسي وتسويقاً عالميًا لمُنتجاتنا السينمائية خارج رقعتنا الجغرافية.

ويبقى السؤال المطروح هو: ما السبيل إلى التغيير؟ إذا أرادت دولة أن تُطور من قُدراتها وتوسّع من مدركاتها وتُنير خلاياها الاجتماعية، فما من سبيل لديها إلاّ التعويل على كفاءاتها من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانية استغلال وتطويع كُل المجالات المُتاحة، ومن بين المجالات التي أصبحت تُمثل سُلطةً مركزية اليوم في العالم، بل إنّها أخطبوط القارات، هي الشاشة أو ما يُعبر عنها بالسلطة الفيديوقراطية التي رفعت أممًا ووضعت أمما أخرى.

بل إنها أقوى سُلطة دعائيةٍ بامتياز فالأفلامُ لا يُجاريها أي شكلٍ آخر من أشكالِ الاتصال على حد قول أدولف زوكر. فاستغلال الشاشة على النحوِّ الصحيح سيكون له أثرٌ عظيم، على المستوى المحليّ والعالمي، بل إنّ التعويل على الصورة هو السبيل الوحيد لصِنَاعةِ أسطورة العصر كما يعتبر ذلك ديبراي.

لعل ماَ كُتب حول الصورة والشاشة أكثر من أن يُعد، ولكن الأمّة العربيّة إلى اليوم تشكو نقصاً فادحاً، وفراغاً جلياً في التعامل السليم مع إبستيمولوجيا الشاشة. لا مجال للتطور اليوم إذا كانت الشاشة خارج سيرورة التاريخ الراهن، وغيرُ مباليةٍ بحال الماضي والحاضر، بل إنّ سلطة الفيديوقراطية اليوم أصبحت ذات تأثير واسعٍ، وإنّما يوزع اليوم بالشاشة مما لا يوزع بالسلاطين، وما التغيير الذي يعتري الأمم على الصعيد التقني والسيكولوجي والابستيمولوجي والاقتصادي والسياسي والعسكري بل وكُل ما له شأنٌ في حياة البشر إلاّ والشاشة منبعه ومأتاه. بل وإنّ من بين أسباب رُكود الأمّة هو نبذ الشاشة وعدمُ التعويل عليها.

إنّ ما دفعني للتطرق إلى ضبابية التعامل مع الشاشة وسوء تطويعها لخدمة مصالح الأمّة في عالمنا العربي، هو أننّي شاهدت منذ مدّة فيلما طويلاً يحكي قصة الإمامِ المُجاهد صلاح الدين الأيوبي، فما راعني وأثار في نفسي الامتعاض هو أنّ الشريط قديمٌ للغاية وحتى عندما حاولتُ البحث عن إصدارٍ جديدٍ عسُر عليّ الأمر ولم أجد شيئاً في خبايا الانترنت.

بل إنّ الشريط يعودُ إلى قُرابة الأربع عقودٍ أو ما يدنوا من ذلك وهو ما يُفسر شدة رداءة الصُورة، وسوء الإخراج والإنتاج، بل وحتى التمثيل لم يكُن في المستوى المطلوب الذي ينبغي أنّ يتقمصه مُمثل سيلعب دور الإمام الأكبر صلاح الدين، إضافةً إلى حبكة النص والتي تبدوا بسيطةً إلى حدٍ كبيرٍ جداً وخالية من المواعظ التي نطق بها الإمام في حياته بل انه سيناريو عادي جداً ولا يتناسبُ مع حجم الدور المُسندِ له.

نُشير هنا إلى سوء الإخراج والنص ورداءةِ الصُورة لا من باب الطعن في مُخرج الفيلم، عكس ذلك فالمُخرج قد اجتهد وأصاب وبذل جُهداً كبيراً حتى يتمكن من إخراج فيلمٍ كهذا بوسائل تقليدية وبميزانية عاديةٍ. ولكن الطامةُ الكبرى والمُصيبة العظمى أنّ هذا التُراث العظيم الزاخر في كُتُب التاريخ والمشهود له إلى اليوم لم يقع إحياءه بأعمالٍ سينمائيةٍ فنيّةٍ ذات اعتبارٍ ووزنٍ مرموقةٍ في السينما العالميّة.

فرغم تطور آليات التصوير وتوفر الإمكانيات اللازمة وزيادة لم نر إحياءً فعليًا لهذا التُراث المنسي وتسويقاً عالميًا لمُنتجاتنا السينمائية خارج رقعتنا الجغرافية، فحتى الإنتاجات الموجودة اليوم لا تُواكب الثورة السينمائية والميدياتكية، التاريخُ العربيّ والاسلاميّ زاخرٌ بالأعلام الذين غيروا بوصلةَ العالم ولكن لا يوجد أي عمل يُحي أثرهم ويُذكرنا بمناقبهم وحتى إن وُجدَ فلا يُعطي مشهداً كافيًا لهؤلاء الأئمة الكِبار.

أوّل خُطوة للتغيير لا بُدّ أن تكون من خلال العمل الجاد لإعادة "رسكلة" الحقل الإعلاميّ والسينمائي وتكوين استقلالية تامةً.

بل العجيبُ أنّ من شدة تخاذُلنا ورُكودنا صرنا نستقي أخبارنا من مؤسسات إعلامية غربية وهذا ما أشار إليه الشيخ أحمد سالم في كتابه صورة الإسلاميين على الشاشة "وهكذا تحوّل العالم الثالثُ بصفة عامّة، والبلدان الإسلامية بصفةٍ خاصة، من مصادر للأنباء إلى جهات مُستهلكة للأنباء. وهكذا ولأوّل مرّة في التاريخ يجُوزُ لنا أن نقول إنّ العالم الاسلاميّ يتلقى المعلومات عن نفسه عن طريق الصورة والقصص والأخبار المصطنعة في الغرب".

كُل هذا السفول في المجال السينمائي والتلفزي سببه الأساسيّ هو ازدراءُ سلطة الفيديوقراطية وعدم التعويل عليها لضمان مكانةٍ عالميّةٍ مرموقة، بل إنّ أغلب أسباب ركودنا اليوم في المجالات الأخرى عائدٌ في جُزءٍ كبيرٍ منه إلى ضُعف التعاطي السليم مع ماهية الشاشة، لا يُمكن اليوم لأي مجتمعٍ أن يُجاري المجتمعات الأخرى دون أن يُكوِّن زاداً سينمائياً مرموقاً يدافع به عن نفسه ويذب عن وطنه ودينه وثقافته وحضارته وإلاّ فسيكون ضحيةً لمطرقة الفيديوقراطية فالمُشاهد ضحية كما يعتبره أدورنو وهوركهايمر في كتابه جدل التنوير.

ومكوثنا فقط كمُشاهدين غير فاعلين ولا مُنتجين جعلنا فعلاً ضحايا الهالة السينمائية الغربية. إذ أنّ تخاذل العرب وعدم التعويل على السلطة الفيديوقراطية وأهمية الشاشة، جعلنا لا نوّفي حق أسلافنا ولا صحابة نبيّنا، بل مكثنا فقط نجتر إصدارات كلاسيكية وقديمة ونُكررها في كُل مناسبة وفي مُقابل ذلك ننتقد إصدارات المستشرقين والشيعة حول رسولنا أو حول أحد أعلامنا الكبار.

أوّل خُطوة للتغيير لا بُدّ أن تكون من خلال العمل الجاد لإعادة "رسكلة" الحقل الإعلاميّ والسينمائي وتكوين استقلالية تامةً، وإحياء التُراث المنسي بإصداراتٍ جديدة بجودة عالميّة تحفظ لنا ديننا وحضارتنا وهويتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.