شعار قسم مدونات

حَنينيّات.. أغاني الطّفولة

blogs - friend
"مهما كانت أيدينا صغيرة، أحلامُنا تداعب النّجوم"
مهما كنّا بارعين في الكلام لا بدّ أن نتعثّر أمام بعض الأشياء التي يصعب علينا التعبير عنها، وبالحديث عن نفسي؛ لطالما كان صعبًا عليّ أن أتحدّث مثلا عن ذكرياتي القديمة، خصوصًا تلك التي يُخلّفُ استدعاؤها حنينًا لا أعرف كيف سأتعاطى معه، لذلك أحببت دومُا أن أتركها خامًا في ذاكرتي دون أن يشاركني بها أحد، فأنا أؤمن أن الأقدام التي تطأ صفحات الثلج الوديعة تفسدُ بآثارها روحيّة المكان.. لكنْ، هناك دومًا أشياءٌ يمكننا تشاركُها معًا بصفتها ذكرياتـ"نا" العزيزة، وحين نتحدّث عنها أمام الآخرين لا نفقدُها شيئًا من خصوصيّتها، لأنّها جزءٌ من ذاكرتنا الجمعيّة، كأغاني الطفولة!

"حُلمُنا نهار، نهارُنا عمل. نملكُ الخيار، وخيارُنا الأملْ"
كان لطفولتنا الرّتيبة طقوسها الخاصّة، تحديدًا صباحاتنا الباكرة وفترة ما بعد الظهيرةِ من كلّ يوم، نتسمّر أمامَ تلفازٍ صغير بترقّب شديد، لم تكن قنوات الأطفال التي تبثّ برامجها على مدار الساعةِ اليومَ خيارًا متاحًا لنا، وكان علينا إن حدث لواحدٍ من أصدقائنا مكروهٌ في البعدِ الآخر أن ننتظر وقتًا ليس باليسير حتى يحين موعد الحلقةِ القادمة لنطمئِنّ عليه، أصدقاءٌ حملوا أسماءً مثل: جودي أبوت، وساندي بل، وماجد، وهزيم الرّعد، ولوز وسكر! لكنّ حديثي اليوم ليس عن هذه الشخصيّات وإنّما عن الأغاني التي قدّمتهم لنا ببساطةٍ مُفحِمة، فبعيدًا عن أنّك ستقرأ كلماتِ تلك الأغاني مُلحّنةً كلّما وقعت عليها عيناك، فإنَّ مجرّد سماع ثانيتين من بدايتها كفيلٌ بنقلك عبر آلة زمنيّة أعوامًا عديدةً إلى الوراء!

لا تمحى من ذاكرتي مشاهدٌ مثل موت العمّ فيتاليس في ليلة باردة وسط الثلج، وألفريدو في "عهد الأصدقاء" مهما حاولت.

"ها نحنُ ذا.. على دروب كنزنا، نسيرُ معًا وآمالُنا تسيرُ قبلَنا"
أسكِتْ اللحنَ إن استطعتَ الآن، أو الصور التي تتلاحقُ أمام عينيْك. عنّي أنا فلا أستطيع، ولا أظنّ أنّ هذه الحالة الغريبة من الحنين تتلبّسني وحدي، فهي ذاكرةُ أجيالٍ بأكملِها. كلّنا تربَّيْنا على كلماتٍ مثل: "بالأخلاق الفاضلة، بالمحبّة بالأمل، نسمو، ننتصرْ على.. المصاعبِ بالعمل" و "ساعد غيرَك، لو تدري ما معنى حبُّ الغيرِ.. ما أجملَ أن تحيا في الأرضِ بلا نُكران.."

كانت تلك الأغاني دروسنا الأولى في العربيّة، صُلحنا الأوّل مع البلاغة، تذوب في سَمْعِ الواحدِ وقلبه ذوبانَ الحلوى، بسيطة تشبه أيّامنا الناعمة والمُسالِمة آنذاك. ألحانها الجميلة والرائقة تدفعك لحبّ الحياة، والطبيعة، وشروق الشّمس، والسماء الزرقاء الصافية، والمروج الخضراء التي ابتسمَ الزهرُ على خدّها بعد ليلةٍ شتويّة عاصفة.

انطلقتْ معها أرجُلنا للريح، ورقصنا على إيقاعها الذي يدبّ في المرءِ دبيب العافية. وتعرّفنا من خلالها على معانٍ كبيرة كان يصعب علينا تعلّمها دون أعوامٍ طويلةٍ من الخبرة: الصّداقة، والوفاء، والإخلاص، والمثابرة، ومعنى أن تغرس في اليائس أملًا، وتقطعَ الدروب وتُفرِحَ القلوب، وتشعلَ بالدربِ الشمعة!

"أصواتٌ جاءت، تتلوها أصوات…"
أحزاننا الأولى، ودموعنا، ترتبط أيضًا بتلك الأغاني، بكينا ونحن نسمع نداءَ الحسرة على لسان سالي: قصة الإنسان، والحشرجةَ المختبئة خلف درعٍ مكابر هو صوتُ إيروكا التي غنّتْ: "سوف أكتب الدموع والأحزان.. في كتاب ليس له عنوان" ثم كيف صدحت بقوّة شعرنا بها حتّى العظم وهي تقول: "لن أعود للوراءْ، لن يكون لي معه لقاءْ"

لا تمحى من ذاكرتي مشاهدٌ مثل موت العمّ فيتاليس في ليلة باردة وسط الثلج، وألفريدو في "عهد الأصدقاء" مهما حاولت. كانت تلك المشاهد فقدي الأوّل، عرفت معها أنّ الموت لا يتعلّق بالموتى فقط بل بالأحياء الذي تُركوا وحيدين، وما كانت تلك المشاعر لتصل بتلك القوة لولا أغنيةُ التأبين الجماعية التي ترسم على وجهك البسمة رغم عينيك الحزينتيْن: "نحن الأصدقاء.. نعرفُ ما معنى الوفاء.." التي ودّع بها فتيةٌ المداخن ألفريدو خاصّتَهم! ولا أنسى أبدًا منظر السفينة وهي تمخر البحر نحو المجهولِ هربًا من الحرب، وتشقّ معها القلبَ بينما تحملُ على متنها عائلةَ لحن الحياة وهم يغنّون معًا:"لن تباعدنا أيّها السفرُ"، في مشهدِ لجوءٍ قاسٍ بِتنا نشاهده اليوم بكثرة في نشرات الأخبار –ويا للمُصادفة!- بنفس الحيثيّات…

أحزنُ بشدّة عندما أرى واقع الأغنية التي يسمعها الطفلُ اليومَ حين يفتح قنوات الأطفال، وكيف تحوّلت تلك الألحان الهادئة والمتناغمة والمفعمة بالحياة إلى نغمات سريعة صاخبة صنعتها آلات حديديّة تفتقد للعاطفة وتخلو من الروح، وتصحبها كلمات تفتقر للمعنى والمبنى. أغانٍ أقلّ ما يقال فيها أنّها جوفاء لا تقوّم لغةً ولا تشكّل حدثًا فارقا في ذاكرة الطفل الطازجة.

أحزن على الأسماء الغريبة والصعبة التي تتكرّر على مسامعهم باستمرار ولا ترتبط بلغة عربية ولا أجنبيةٍ مألوفة أحيانًا! بالعودة إلينا فحتّى أسماءُ شخصيّاتنا الكرتونيّة كانت منتقاةً بعناية، وكأنّها خُلقت لتلك الشخصيّات بالذات. لا عجب أنّ أسماء شريحةٍ واسعةٍ منا ارتبطتْ بتلك الشخصيّات من بابِ أن تكون فألاً حسَنًا علينا، اسمي مثلًا، كان اقتراحا من أحد إخوتي تيمُّنًا بـ "رغد" الطيبة والجميلة في لحن الحياة، فهل يمكنك أن تتيمّن بأسماء مثل "دورايمون" أو "ستروبيري"؟

وإن يكن تذكرنا للماضي على هيئة ألحان؛ ألحانٍ يحرّكُ تذكّرُها من حولك الوجوه والأماكن والرائحة، لتصافحَ بها طفلًا كنتَهُ في زمنٍ بعيدٍ.

لنكن واقعيين، أنا لا أضع أغاني الأطفال أو برامج الكرتون بمنزلة عصًا سحريّة تحوّل الأطفالَ إلى شخصيّات مثاليّةٍ ناجحةٍ في المستقبل مهما نشؤوا في بيئة محطّمة وقاسية، ولكنّها أداةٌ يمكن أن نسخّرها للبناء، جزء من حلَقة الأشياء التي علينا أن نقدّمها، على الأقلّ يكفي أن تكونَ رُكنًا دافئًا في ذاكرتهم عندما يكبرون، ويستنشقون من خلالها رائحة ماضيهم الذي مهما كان قاسيًا سيظلّ جميلًا بالنسبة للطفل عندما يسترجعُهُ وهو شابّ، وإلا فقد كبرنا جميعا ونحنُ نحلُم أن نكون الأفضلَ بين الجميع، ومصطلحاتٌ مثلَ: أداةِ السلام، وطِفلِ الإفادة تتردّدُ على مسامعنا، ولكن مع هذا صِرنا هذا النوع الغريب مِن "شبابِ المستقبل"!

لا أدري، بصراحة، كيف غدا الكون الذي لا طعمَ له أو لون واقعًا، بعدَ أن كان سؤالا تخيُّليّا! وكيفَ أنّ حناجرنا التي تعبت وهي تردّد "سجّل أهدافًا، لا تيأس، لا تخشَ المرمى. كن حسَن الخُلقِ مع الخصمِ فأهدافك أسمى" تعبتْ سدىً، فكلّ أولئك المتعصّبين خرجوا منّا بالفعلِ رغما عنها!

وعلى أنّ أناشيدنا الوطنيَّة كانَت أغانٍ مثلَ: "شرف الوطن أغلى مِنّا ومِن.. ما قد يجولُ بفِكرنا في أيِّ زمن" و "ما عاشَ الظالمُ يسبيكِ وفينا نفَسٌ بعد…" فقد كان منّا الخونة والقتلة والمتعطّشون للدّماء!

مع ذلك، ومع أنّنا لا نملك المستقبل الذي حلُمنا به، فما زلنا على الأقلّ نملك هذه الفكرةَ الجميلة عن ماضينا، وإن يكن على هيئة ألحان؛ ألحانٍ يحرّكُ تذكّرُها من حولك الوجوه والأماكن والرائحة، لتصافحَ بها طفلًا كنتَهُ في زمنٍ بعيدٍ، وتتذكّرَ من خلالها تفاصيل غابرة وكأنّها حدثت بالأمس! ولهذا السبب وحده.. كانت الأغنية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.