شعار قسم مدونات

السجونُ البديلة

A picture made available on 22 November 2016 shows prisoners working in a tailoring workshop at the central prison compound of Kuwait, 20km west of Kuwait City, Sulaibya area, Kuwait, 21 November 2016. Prisoners spend their time in learning tailoring and other useful professions as part of a rehabilitation program in prisons of Kuwait. The prison administration in Kuwait encourage prisoners to learn professions and complete their studies if they need. The prison compoun

ثقافة المكافأة على الفعل الجميل، والمعاقبة على الفعل القبيح، هي ثقافة بشرية ترتبط بالفطرةِ الطبيعية، التي تقتضي الاستحسان والاستقباح وما يستتبعهما من ردةِ فعلٍ متكافئةٍ مع الفعلِ المُقابل؛ وترتبط هذه الثقافة بالأديان السماوية التي جاءت لترسيخ مبدأ الثواب والعقاب، جاعلةً من يوم الدينونةِ موعداً موقوتاً للحسابِ والجزاء.

والعقوباتُ تختلف باختلاف الجريمة وحجمها وتأثيرها، ونظرة المجتمع إلى الجريمة وتصنيفها له، وعند الحديث عن عقوبة السجن كإحدى العقوبات المتطورة التي اخترعها الإنسان لمعاقبة المدانين بأفعالٍ يدينها المجتمع أو النظام، بغضِّ النظر عن طريقة السجن وتفاوت المدد المحكوم بها على المدانين، عند الحديث عمّا سبق، فإنه لا بد من التساؤل عن فكرة السجن ومخترعها، فكرةِ السجن كطريقةٍ للقضاء على حريةِ الإنسان المُدان وكبح جماحه، ومنعه من ممارسة حياته الطبيعة، والتواصل الطبيعي مع المجتمع من حوله.


إنّ الكثير من الشواهد تثبت أنّ خريجي السجون وخاصةً المراهقين منهم يخرجون وقد تفننوا في ضروبٍ أكثر احترافية في الإجرام، وذلك بسبب صحبة السجن الأكبر عمراً والأكثر خبرةً ودرايةً في سلوك سبل الجريمة.

ويبدو من الصعوبة بمكان معرفة التأريخ الحقيقي لبداية السجون، ومن هو صاحب هذه الفكرة، خاصةً وأنّ السجن يبدو متجذراً في عمقِ التاريخ الإنساني، وإن اختلفت أشكاله وصوره، بتدرجاتها المتنافسة في توحشاتها وفظاعاتها. ويبدو أنّ السجن في العصر الحديث قد اقترن بأهدافٍ تسعى إلى صالحِ المُدانِ والمجتمع من حوله، منها صيانة المجتمع وتنقيته من المجرمين، وتغيير بيئة المدان سعياً إلى تغيير أخلاقه إلى الأفضل، وتتجاوز بعض الأهداف إلى التعليم واحتراف مهنةٍ يدويةٍ، واكتساب المهارات المختلفة، وقبل كل تلك الأهداف يبرزُ شعار "السجن تربية" دالاً على صلبِ الهدفِ الرئيس المُعلَن من السجون، وهي تربية المُدانِ والنأي به عن الظروف المساعدِة على معاودة ارتكاب الجريمة، ولكنّ السؤال هو: هل استطاع السجنُ حقاً أن يمارس دور التربية وإعادة تأهيل المحكومين، ومنعهم من ارتكاب الجرائمِ التي كانت سبباً لسجنهم في المرة الأولى؟

إجابةُ هذا السؤال ستُغنينا لمعرفة هل أدّى السجنُ دوره التربوي الرئيس، أم أنه لم يتجاوز الشعار إلى الواقع الفعلي المُعاش؛ مع أنّ الكثير من الشواهد تثبت أنّ خريجي السجون وخاصةً المراهقين منهم يخرجون وقد تفننوا في ضروبٍ أكثر احترافية في الإجرام، وذلك بسبب صحبة السجن الأكبر عمراً والأكثر خبرةً ودرايةً في سلوك سبل الجريمة، إضافةً إلى تفكك عوائل السجناء بسبب طول مدد السجن، وما ينتج عن ذلك من شروخ اجتماعية هائلة بين السجناء المُفرَج عنهم والمجتمع الذي ينظر إلى السجين في الغالب مهما خفّت جريمته بعين التوجس والارتياب.


إنّ الدعوة إلى إلغاء السجون بشكل عام قد تكون دعوى غير منطقية أبداً، ولكن من المنطقي الآن تشجيع العقوبات البديلة عن السجن، بمراعاةِ العمر ونوع الجنحة.

ومع أنّ أهداف السجن في غالبها إنسانية وطموحة، إلاّ أنّها قد تفشل كثيراً في الوصول إلى جُلِّ تلك الأهداف، ربما لاختلاف الثقافات والعقليات بين بيئةٍ واخرى، إذ لا يمكن مقارنة بيئة السجن في بعض دول أوروبا الشرقية، ببيئة السجن في العالم الثالث، فبينما استطاعت السجون في دول أوروبا المتقدمة وخاصة في السويد التي أعلنت قبل سنواتٍ قريبة عزمها أغلاق بعض السجون على أراضيها بعد تراجع مستوى الجريمة في السويد بشكل ملحوظ، وتنادى البعض بتحويل السجون إلى مكتباتٍ عامة، بينما تحتفل دول العالم الثالث بتشييد المزيد من السجونِ التي لا تنتج إلاّ سجوناً أخرى..! وبغضِّ النظر عن العبء المالي الكبير الذي تشكله السجون على مصارف الدولة، فإنّ عبئها السياسي والاجتماعي والمستقبلي أكبر وأخطر، خاصة إذا أصبحت هذه السجون تفرخ للجريمة والتطرف والإرهاب المنظّم.

إنّ الدعوة إلى إلغاء السجون بشكل عام قد تكون دعوى غير منطقية أبداً، خاصة وأنّ البديل الملائم غير موجود، وفي ظلِّ الانتشار السرطاني للجرائم الذي تعدّى الأرض ليصل إلى الفضاء عبر الجرائم الالكترونية، ولكن من المنطقي الآن تشجيع العقوبات البديلة عن السجن، بمراعاةِ العمر ونوع الجنحة، بحيث يمكن الاستغناء عن الزجِّ بالمراهقين في السجون، والاكتفاء بأشكال أخرى من العقوبات التي تتوافق مع جنحهم، والتي قد تصل إلى الإقامة الجبرية والمراقبة الالكترونية عن طريق الأدوات المتاحة لذلك، وبخصوص نوعية الجُنح فيمكن الاستغناء عن عقوبة السجن في الحقوق المالية الخاصة، أو تلك الجنح التي لا يشكل أصحابها خطراً حقيقياً على المجتمع، شريطة توسيع دائرة العقوبات البديلة لتكون أكثر ملائمةً للمجتمع ومقدرةً على النجاح، وإنفاذ المرجوِّ منها.


وإلى أن يحين ذلك اليوم الذي تتقلصُ فيه السجون، لتصبح مدارس ومكتباتٍ ومتاحف، من حقّنا أن نحلمَ بعالمٍ بلا سجون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.