شعار قسم مدونات

في حضرة تعز

Dust rises from the site of an explosion during clashes between Houthi fighters and pro-government fighters in southwestern city of Taiz, Yemen November 22, 2016. REUTERS/Anees Mahyoub
أزعم أن كل ما في القاموس العربي من مفردات، وما في الكتب من عبارات لا تستطيع أن ترسم أبعاد الدهشة التي تمتلكني عند رؤية تعز من على جبل صبر وهي مغمورة بشمس الغروب، وما يتدفق على واجهات المنازل من كميات الضوء لتزهو المآذن المستقيمة البيضاء، بخيوط الغروب الذهبية في أزهى حال من التوهج واللمعان.

قصتي معها بدأت ذات صيف، عندما زرتها قادما من مدخلها الغربي الى اعلى مكاناً فيها جبل صبر، من يومها والدهشة لم تفارقني، وكأني بها تقول إن الزائر عندما يدخلها من أي الجهات يشعر أنه يعلو، ومتى صعد الى قمة جبلها صبر اقترب من السماء، وكأني بذلك الجبل حارسها التاريخي يراقب المدينة عن قرب، يطل على قلعتها القاهرة ويحرس شوارعها يودع الغرب كما أنه أول من يستقبل شروق شمسها الدافئة، صامداً كمقاوم يدافع عنها غائلة كل الغزاة، وأطماع المعتدين.

يجمع المؤرخون بأن دولة الرسوليين التي اتخذت من تعز عاصمةً لها من أطول الدول عمراً في تاريخ اليمن الوسيط إذ استمرت قرنان وثلث القرن.

يشدني من أعلى الجبل منظر المآذن، وسطوح بعض البيوت العالية، وتثيرني التباب المحيطة بالمدينة من قرب، أو من بعد، كما إن لوقت الغروب أيضاً إثارته على المدينة الحالمة عندما يبدأ اللون الذهبي يلف المدينة، وتبدأ السحب البيضاء تأوي إلى ما وراء التباب، لا يكتمل الجمال إلا وأنت ترى شموخ تاريخها، في جامعها المظفر ومدرستها الأشرفية والأتابكية وبابها الكبير، وتشاهد قلعتها القاهرة وهي تحكي لزوارها قصص متعددة من الحصار والصمود والتحرر.

حين أنظر الآن، في محاولة لاسترجاع علاقتي بتعز، تتراءى لي هذه المدينة من خلال الدهشة، التي ارتبطت باللقاء الأول، وتلك الأنفاس التي عشتها في وادي الأحباب، وادي الضباب، ولحظات الانس مع فنان اليمن، أبن تعز أيوب طارش وهو يغني للوادي كما غنى للحب والوطن "وادي الضباب ماؤك غزير سَكَّاب نُصَّك سيول والنُصْ دمع الأحباب"، فحولها وبداخلها الجمال كله، من يومها صارت علاقتي بالطبيعة وبالمدينة إعجاباً وحميمية، لن اتكلم عن حالة العشق بين وبين تعز لأني لن أوفيها حقها وإن حاولت، ولكن سأتحدث عنها كتاريخ وصانعة لدولة اليمنية ورائدة التاريخ اليمني.

هنا صلى معاذ..
من شرق المدينة أشرق الإسلام وقدم على تعز معاذ بن جبل يحمل نور الهداية والعلم للحالمة، وفي مدخلها الشرقي بنى جامع الجند بأمر من رسول الله صلى الله علية وسلم، ومن هنا كانت تعز ممثلة بالجند بداية رسالة الإسلام ومشرقة إلى اليمن ورد في كتب السيرة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر معاذاً بأن يبني المسجد في الجند بين السكاسك والسكون قائلاً له: "يا معاذ انطلق حتى تأتي الجند فحيثما بركت هذه الناقة، فأذن وصل وابتن مسجداً".

عندما تدخل جامع الجند يأسرك المكان في رحابه، ويأخذ الشجن الى صاحبه، فهنا صلى معاذ ومن هنا أشرق النور والاسلام.

تعز الرسولية الدولة العظمى..
يجمع المؤرخون بأن دولة الرسوليين التي اتخذت من تعز عاصمةً لها من أطول الدول عمراً في تاريخ اليمن الوسيط إذ استمرت قرنان وثلث القرن، وحكمها خمسةَ عشرَ ملكا، ويتفق كل من كتب في تاريخ دول اليمن الحضارية، بأن الفترة الرسولية هي أخلد الحضارات ذكراً، وأبعدها صيتاً، وأغزرها ثراء، وأوسعها كرماً وإنفاقاً.

ويُعتبر عصرها عزة في جبين اليمن في عصرها الإسلامي، ذلك لأنه أخصب عصور اليمن ازدهاراً بالمعارف المتنوعة، وأكثرها إشراقاً بالفنون المتعددة، وأغزرها إنتاجاً بالأفكار في شتى ميادين المعرفة.

وفي عهد حكم الرسولين تمكن ملكها المؤسس المنصور من توحيد اليمن كله تحت حكمهم ، من حضرموت جنوب الجزيرة العربية وحتى مكة شمالاً، ودانت لهم القبائل والأسر الحاكمة كالأئمة الزيديين في صعدة وجهاتها وصنعاء وما حولها، تميز حكم الدولة الرسولية اليمنية الطويل الأمد بكثير من الإنجازات المهمة في ميدان العلم والتجارة والزراعة والطب، فقد بنوا المدارس الكثيرة وأجزلوا العطاء للعلماء وكان كثير من ملوك بني رسول علماء وشعراء وأصحاب رأي ومؤلفي كتب في فروع المعرفة المختلفة، ولا تزال مدينة تعز إلى يومنا هذا تتزين بمنجزاتهم العمرانية كجامع المظفر وجامع الأشرفية ومدرسة الأشرفية وقلعة القاهرة.

تعز الحالمة: مدينة انتشت ذات يوم بالشعارات المتنوعة، وانكسرت اليوم بالشعارات، لكنها هذه المرة كانت شعارات الموت والدمار والعنصرية.

صانعة الثورات اليمنية..
امتلكت تعز مقومات التغيير منذ ثلاثينيات القرن الماضي وذلك بحكم موقعها المجاور لمدينة عدن وهجرة أبنائها في أرجاء المعمورة، وقد كان لهم دور فاعل في زرع بذور التغيير في مناطقهم وتفاعلت بقية المناطق مع تلك الأفكار والطموحات، تشكلت الحركة الوطنية اليمنية في تعز في بداية النصف الثاني من الخمسينيات وحازت السبق في وجود التنظيم السياسي السري المنَظم على أُسس حديثة، فقد كانت تعز المدينة والناس هي مركز التجمع والإمداد والدعم لقوى التحرير الوطنية ضد الاستعمار في جنوب الوطن.

وباعتراف جميع أبناء اليمن شمالاٍ وجنوباً، فقد تصدرت الطلائع من أبناء هذه المحافظة منذ منتصف الثلاثينيات وحتى مطلع الستينيات الدعوة إلى الثورة والتغيير ومقاومة الحكم الملكي الإمامي في الشمال ومنذ منتصف الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات كان أبناء هذه المحافظة في طليعة القوى المقاومة للاحتلال الأجنبي. ولم ينظروا في يوم أن المحافظات الجنوبية تختلف عن بقية المحافظات الشمالية وأن مشاركتهم في الحياة العامة والحياة السياسية والاقتصادية شأن وطني خالص يتطابق مع هويتهم الوطنية، وفي 11من فبرير كانت الحالمة تعز ايقونة ثورة الشباب وضامنه استمرارها، فتعز مدينة ساحتها الحرية، ومسيرتها الحياة.

الحالمة اليوم..
يتنوع في تعز كل شيء ويختلف سكانها في أشياء كثيرة، لكنهم يتفقون على حب تعز. أما الدولة الحاضرة فقدم لها ابنا الحالمة كل شيء دون استثناء دون مَنْ، قدمت تعز لليمن العلم والثقافة والصناعة ورجال الدولة، وقدمت لها الهضبة الحاكمة مشاريع الألم والحسرة والذكريات المريرة، ذكريات قد لا تزول في الزمن القريب.

تعز الحالمة: مدينة انتشت ذات يوم بالشعارات المتنوعة، وانكسرت اليوم بالشعارات، لكنها هذه المرة كانت شعارات الموت والدمار والعنصرية، شعارات تحاول سحق الأمل وتجهيل العلم وزهق روح التفاؤل، نسوا أصحاب الشعارات هذه المرة أن تعز مدينة لا تنكسر، وأنها مدينة استثنائية ليست كغيرها من المدن التي تسلم مفاتيحها لأول عابر، لم تَفعل تعز ذلك ولم تقبل على نفسها الضيم، وحَملت على نفسها فِعل إعادة حضارة اليمن، كما هي طوال تاريخها. فكل الذين نحبهم يفعلون ذلك، لم تنسى أنها مَشرق رسالة الحق والعلم، مدينة تعرف طريقها ولم يعد بمقدور أحد هزيمتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.