شعار قسم مدونات

حسناوات هافانا

blogs - Coba Cars

أطل من الشرفة في الموعد المضروب لاختبار دقة سائقي خيسوس، فأجده منتظرا قرب السيارة، يطل بوجه الأسمر البشوش، تلتقي عيني بعينه ليقول، نجحت في الاختبار. لم يكن أمامي وسيلة أستعين بها على ساعة اللقاء بخيسوس سوى الوفاء بالمواعيد التي نضربها كل مساء لأنني، وإن كنت أعرف رقمه هاتفه، لا أحسن التخاطب معه. فلا أنا أعرف الإسبانية ولا هو يعرف العربية أو الإنجليزية. ها نحن انطلقنا أول النهار، تطوف السيارة مع عقارب الساعة على طريق شاطئ هافانا الجميل حتى تصل إلى وسط المدينة "أبانا بييها".

 

هناك تصطف السيارات الكلاسيكية القديمة الملونة، كرنفال مبهج لا يتقدمه البشر، ولا رقصة السامبا، ولا تيجان الريش. كان يغلب على السيارات طرازات فورد وشيفروليه وبويك ودوج الأمريكية. ويبدو أنها آخر سلالة استطاعت البقاء منذ الثورة على حليف أمريكا "باتيستا زالديفار" أواخر الخمسينات وحتى اليوم. حتى وقت قريب، كانت الطرازات القديمة جزء من ملامح كوبا القديمة، ومؤشر على الزمن الذي توقف عند الخمسينيات والستينيات. لكنها تحولت مؤخرا إلى فلكلور، ووسيلة يتربح منها الكوبيون كلما لاح في الأفق سائح أجنبي يشتهي ركوب التاريخ، والتقاط صورة "سيلفي" من زمن آخر لا يليق بزمن كوبا. أما سيارة سائقي خيسوس الذي حدثتكم عنه فكانت قديمة أصيلة، ليست للاستعراض في شوارع هافانا أو للتجول بضع دقائق كالعربة التي يجرها حصان. خيسوس لا يقبل المشاوير القصيرة والعابرة.

 

يمكن لصاحب سيارة في كوبا أن ينفق عليها أكثر مما ينفق على فتاته الحسناء. فصيانة هذه السيارات وإنعاشها للبقاء على الطريق ضرورة يمليها الحصار

عليك أن تكون صديقا وعاشقا لكوبا، عندها سيمنحك شرف الركوب في سيارته الفولغا الزرقاء. وإن ألفة سيارة خيسوس تركت آثرا تعاظم في نفسي حينا بعد حين. أنتظرها صباح كل يوم بفارغ الصبر كي تهيم في شوارع هافانا، وتعبر بي من زمن إلى زمن. وإنها عندي كقول طرفة بن العبد في ناقته "وإني لأمضي الهم عند احتضاره.. بعوجاء مرقال تروح وتغتدي". ولقد رأيت وصف جرير بسيارة حمراء بللها المطر "إن العيون التي في طرفها حور.. قتلننا ثم لم يحيين قتلانا". عيون واسعة حادة وثغر باسم صغير، معطف أحمر وحذاء أسود بزنار فضي. ثم تمر سيارة من طراز "فورد فيرلين" بيضاء تقل عروسا سمراء، منتصبة بثوب الزفاف الأبيض، تنظر بثبات إلى الأفق، على الأرجح أنها تعود للعام 1957، أعني السيارة وليس العروس. ولا يقل رونق السيارة عن جمال العروس التي تتيه فرحا في شوارع هافانا. لا تقبل إلا أن تستبد بحسنها، كفيلة بلفت الأنظار وحدها برقتها وهيبتها دون الحاجة إلى موكب يثير الضجيج.

 

ليس وصف قوام سيارة ومشيتها في كوبا من قبيل الغزل الذي لا طائل منه. ولا يغريني استدعاء الماضي "الجميل" لسكب الدموع على أطلاله والكتابة عنه في يومنا الحاضر فقط. فهي جميلة على الحقيقة، جديرة بذكر محاسنها، تنم عن ذوق رفيع استعار صفات الجمال وانحناءاته من الإنسان. أما سيارات عصرنا فهي تشي بأن مصاب الذوق فينا عظيم. قبيحة شاحبة، وتبرجّ فج. استعارت صفاتها من القسوة والجشع. وإذا كانت السيارات الباذخة حكرا على الأغنياء، فهي في كوبا تمنح جمالها للجميع دون استثناء. وهذه بعض من محاسن الاشتراكية و"اليسار" الذي جلبه على كوبا فيديل كاسترو ورفاقه.

 

ويمكن لصاحب سيارة في كوبا أن ينفق عليها أكثر مما ينفق على فتاته الحسناء. فصيانة هذه السيارات وإنعاشها للبقاء على الطريق ضرورة يمليها الحصار. وهو مشهد يومي يحول كل سائق إلى جراح يستخدم مبضعه ليطبب سيارته. وإذا كانت في حالة حرجة فإن زراعة محرك سيارة أخرى، أيا كان طرازها، لا مفر منه. ولقدمها فإنها تسير على مهل، تتشبث بالزمن وترغمك على التأمل في المسير، دون أن تخطفك إلى الوجهة النهائية.

 

لعلي أسرفت في وصف حسناوات هافانا فإغراؤهن لا يقاوم. والخوض في شأنهن، كالخوض في شأن الكوبيين الذين تعصف بهم وبحسناواتهم ريح الشمال. وللحديث بقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.